على الرغم من أن عدد سكان الولايات المتحدة قد زاد بأكثر من 50% منذ نهاية نظام التجنيد الإجباري، فإن القوة العسكرية التطوعية (AVF) أصبحت تعتمد على نسبة أصغر وأصغر من الشعب. فالوحدات التي ترتكز بالكامل على المجندين، تعدّ العائلات العسكرية المصدر الرئيسي للمجندين الجدد فيها. فما يقرب من 80% من هؤلاء، لديهم فرد من أسرتهم في الجيش، ونحو 30% منهم يكون أحد الوالدين. وتبعاً لذلك، وبعد ولادة نظام (AVF) التطوعي، أضحت الخدمة العسكرية في الولايات المتحدة أشبه بشركة عائلية.
لكن اعتماد الجيش على العلاقات العائلية يحمل خطراً مباشراً على المؤسسة العسكرية قد يظهر في المستقبل المنظور، في ظل الانقسام الحاد القائم في المجتمع الأميركي، خصوصاً إذا قررت غالبية العائلات العسكرية، أن الأمة لا تستحق خدمة أبنائها، كما قد يحدث لدوافع عقائدية أو حزبية.
انهيار الثقة بالجيش والمؤسسات الأميركية عموماً
ما يقلق القائمين على حملات التجنيد أنهم يبحثون عن أفراد للخدمة في الوقت الخطأ. فثقة الأميركيين في مؤسسات بلادهم تنهار. والأمر يزداد صعوبة في بلد يرتفع فيه مستوى الاستقطاب والتشاؤم، للعثور على شباب يريدون أداء القسم للدستور والخدمة.
من هنا، يقول نحو 9% فقط من الشباب الأميركي إنهم من المحتمل أن يفكروا في الخدمة العسكرية، مقارنة بـ 16% في السنوات الأولى من حربي العراق وأفغانستان، وفقاً لاستطلاعات وزارة الدفاع. ولهذا، ألقى مسؤولو البنتاغون باللوم في الانخفاض الأخير على سوق العمل الساخنة. لكنهم كانوا يعلمون أيضاً أن انخفاض معدل البطالة لا يمكن أن يفسر مجمل المشكلة.
في السنوات الأخيرة، واستناداً إلى “مؤسسة غالوب” لاستطلاعات الرأي، تراجعت الثقة بجميع المؤسسات الأميركية (المحكمة العليا، الكونغرس، الشرطة، المدارس العامة). ومع أنها لا تزال تتمتع بشعبية نسبية، فإن القوات المسلحة لم تكن محصّنة، ففي عام 2023، قال نحو 60% من الأميركيين إن لديهم “قدراً كبيراً” من الثقة بالجيش، وهي أدنى نسبة منذ عام 1997، دائماً بحسب “غالوب”.
وتعقيباً على ذلك، أقرت وزيرة الجيش كريستين ورموث في مقابلة صحفية بأن الجنود الأميركيين ينتشرون في جميع أنحاء العالم، ويقومون بتدريب القوات الأوكرانية، والعمل جنباً إلى جنب مع الحلفاء، لردع الصين وكوريا الشمالية وإيران”. وأضافت: “إذا أصبحنا أصغر من اللازم، فإن قدرتنا على القيام بهذه الأشياء ستكون في خطر”.
كما لعب سجل الولايات المتحدة الحافل بعقدين من الهزائم دوراً أساسياً في تقويض مكانة المؤسسة العسكرية الأميركية، ما تسبب في انحدار كبير في إيمان عامة الناس بالجيش، إلى حدّ أنه تحول إلى مادة للسخرية، بعدما أطلق عليه البعض لقب “الفريق الأميركي”، الذي لم يفز بأي مباراة منذ “عاصفة الصحراء”، قبل ولادة معظم أعضائه الحاليين.
وما زاد الطين بلّة بنظر مسؤولي التجنيد، هو دعوة كل من اليساريين واليمينيين علناً إلى رفض خوض ما يسمونه “الحروب غير الضرورية التي لا يمكن الفوز بها”، والتي تزامنت مع انخفاض حاد بشكل خاص في تجنيد الرجال والنساء البيض.
ومع استمرار انتشار القوات الأميركية في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، تكافح بعض الأقسام والوحدات العسكرية، مثل الدروع، والدفاع الجوي، وحاملات الطائرات، للحفاظ على نسبة خدمة تتراوح من 2 إلى 1، “أي عامين في الوطن، مقابل عام في الخارج” (النسبة المطلوبة من البنتاغون هي ثلاث سنوات في الوطن مقابل كل سنة في الخارج). وبالتالي، فإن هذه الوتيرة غير المستدامة تستنزف الجنود، وتقوض الروح المعنوية، وتساهم في انتشار وباء الانتحار بين العسكريين.
الجيل Z والتجنيد في الجيش
ينظر الجيل Z، الذي يشكل بالفعل نحو 40% من الأفراد العسكريين، إلى الخدمة في الجيش الأميركي بعيون مختلفة عن جيل الألفية الذي سبقهم (والذين شكلوا غالبية القوة المقاتلة في العراق وأفغانستان). فهذا “الجيل الشبكي” منغمس في العالم الرقمي، ولا يثق في السلطة المؤسسية، وغالباً ما ينظر إليه على أنه هش نفسياً. من هنا، يرى صناع القرار أن استيعاب الجيل Z هو مهمة صعبة بالنسبة إلى الجيش الذي يعطي الأولوية للتسلسل الهرمي، والثبات البدني والعقلي، والتضحية بالنفس.
ما يقض مضاجع القيادات العسكرية في واشنطن، أن الشباب الذين طُلب منهم أن يضعوا ثقتهم في قادة بلادهم (لإرسالهم إلى الحروب)، وفي مواطنيهم الذين سيقاتلون إلى جانبهم، لم يترددوا في “بيع أميركا”.