تحولات كبيرة يشهدها العالم جراء المواقف الدولية المتعارضة بشأن الحروب التي أشعلتها إدارة بايدن. فقد شهدت اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة لهذا العام معارك دبلوماسية وسياسية أشد وطأة وتأثيرا وخطورة على الرأي العام من المعارك الحقيقية الدائرة في قطاع غزة ولبنان وأوكرانيا. فهذه المعارك رغم تباعدها الجغرافي هي معركة واحدة، معركة من أجل سيادة الدول واستقلالها، ومن أجل لجم الهيمنة وإفساح المجال أمام ولادة نظام عالمي جديد طالما بشرت به روسيا من خلال تحركاتها النشطة لتفعيل المنظمات الدولية والإنسانية والقانونية.
ولا يجد أي متابع للأحداث في المنطقة والعالم صعوبة في تحديد المواقف الدولية، فيما لا تزال الأمم المتحدة ومجلس الأمن عاجزين عن اتخاذ أية مواقف حاسمة، لتبقى هذه المنظمات تتأرجح بدون أية فاعلية بين هذا وذاك لتفقد وزنها ومصداقيتها وقوة تأثيرها. وتقف عاجزة عن إدانة مجازر موصوفة وحرب إبادة جماعية ممنهجة. وهذا الضعف في اتخاذ القرار عكسته مواقف الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. فيما دعا العديد من رؤساء الوفود إلى إصلاح الأمم المتحدة بما يؤدي إلى إنهاء الهيمنة الأمريكية على المنظمة الدولية.
وكما قادت إدارة بايدن التحركات الدبلوماسية منذ بدء عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول الماضي من دون تحقيق أي تقدم ملموس، وأعطت الفرصة تلو الأخرى لحكومة نتنياهو لسفك المزيد من الدماء، فقد فشلت في وقف إطلاق النار وفي إبرام صفقة تبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل. واللافت أن هذه الإدارة سارعت مع فرنسا إلى تقديم خطة مشتركة عبر مجلس الأمن الدولي لوقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل. وتقضي الخطة بإعلان هدنة لمدة ثلاثة أسابيع بين المقاومة اللبنانية وحكومة الاحتلال بعد أخذ موافقة حزب الله على فصل جبهة لبنان عن جبهة غزة، ما يعني أن أساس الفشل موجود في صلب الخطة، فمن المستبعد أن توافق المقاومة على وقف إطلاق النار على جبهة وترك الجبهة الأخرى تحارب لوحدها.
وفيما أعلنت حكومة نتنياهو أنها ستناقش هذا الاقتراح مع الولايات المتحدة، فلم يصدر أي رد من حزب الله الذي يرفض منذ قرابة العام رفضا قاطعا إيقاف عملياته ضد إسرائيل قبل إعلان وقف إطلاق نار شامل في غزة. وقد أعلن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في آخر كلمة له بعد تفجيرات البيجر في لبنان أنه لا إمكانية أبدا لفصل الجبهتين، وأن السبيل الوحيد لإيقاف الحرب على الجبهة اللبنانية يتمثل بإنهاء العدوان والجرائم الإسرائيلية ووقف إطلاق النار في غزة. وهذا موقف يلقى مساندة من قبل إيران وروسيا اللتين تدعمان بقوة وقف إطلاق النار وتعملان على تجنب الوصول إلى حرب شاملة تشكل خطرا على الأمن والسلام الدوليين.
ويبدو أن هذه الخطة التي لا تملك أية فرصة للنجاح رغم إعلان نتنياهو أنه لا يريد الانجرار لغزو بري لأنه لا يريد تقويض ما أسماه إنجازات جيشه، إلا أن خطة نتنياهو تقضي بتدمير لبنان من الجو عبر غارات مكثفة ويومية ومواصلة حرب الاغتيالات وقتل المزيد من المدنيين الأبرياء وتهجيرهم.
ولا شك أن واشنطن تحاول إشاعة أجواء إيجابية دائما حول خططها ومبادراتها المخادعة والكاذبة والتي لم يعد أحد يصدقها. فهي تتحدث بشكل يومي عن خطط ومشاريع لوقف العدوان على غزة منذ قرابة العام، ولكنها فشلت في إنهاء حرب الإبادة الجماعية غير المسبوقة. وهي متورطة حتى العظم مع الدول الغربية في هذه الجرائم.
وفي هذه الظروف والمناكفات الدولية، فإن المبادرة الأمريكية والفرنسية لا تعدو كونها مضيعة للوقت وإعطاء المزيد من الفرص لحكومة الاحتلال لقتل المزيد من المدنيين في قطاع غزة ولبنان. إلا أن ما يعنينا هو أن واشنطن شريك حقيقي في مجازر الاحتلال، والجنرالات الصهاينة أكدوا أكثر من مرة أنه لولا الدعم السياسي والعسكري وتقديم هذا الخطاب الأمريكي الماكر والمخادع والكاذب، ولولا خمسمائة رحلة جوية تحمل أسلحة وذخائر أمريكية إلى كيان الاحتلال، لما استطاعت إسرائيل مواصلة الحرب التي أدت خلال أربعة أيام على لبنان إلى استشهاد وجرح أكثر من ثلاثة آلاف مدني بينهم مئات السوريين النازحين.
واليوم تكرر إدارة بايدن قبل انتهاء ولايتها الأسلوب نفسه: المراوغة والكذب والتذاكي، مع أن اللعبة الأمريكية أصبحت مكشوفة. وقد حذرت موسكو من المخطط الأمريكي الهادف إلى إشعال المنطقة. وسبقت روسيا الاتحادية الجميع بالتحذير من خطورة التصعيد الذي تقوده إسرائيل والولايات المتحدة ضد لبنان، ودعت إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة وحمّلت الولايات المتحدة مرارا وتكرارا المسؤولية عن استمرار الحرب.
وجاء التحذير الروسي بداية من الرئيس فلاديمير بوتين خلال لقائه مع السيد الرئيس بشار الأسد في موسكو. كما عادت موسكو وحذرت من خطورة المخطط الأمريكي خلال زيارة سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي سيرغي شويغو إلى دمشق الشهر الماضي. ولا شك أن الجميع بات يتفق على أن هدف نتنياهو النهائي هو جر الولايات المتحدة إلى حرب مع إيران. وتلك خطة شيطانية يعمل على تنفيذها نتنياهو منذ بدء عملية طوفان الأقصى من أجل ضم الضفة الغربية بعد القدس والجولان. إلا أن إدارة بايدن التي التزمت دعم إسرائيل بكل ما تطلب، أعلنت مرارا وتكرارا أنها لا ترغب بتوسيع الحرب، وأعلن وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن أننا نواجه خطر اندلاع حرب شاملة قد تكون مدمرة لإسرائيل ولبنان. وفي المقابل، أعلن وزير الخارجية الإيراني عباس عرقشي في نيويورك أن إيران لن تقف مكتوفة الأيدي في حال مواصلة الحرب على لبنان، خاصة وأن إيران لا تزال تحتفظ لنفسها بحق الرد على جريمة اغتيال هنية في طهران. وربما يحتاج العالم لمعرفة مآلات الحرب على لبنان لحين عودة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان من نيويورك حيث يشارك في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقد حذر بدوره من اندلاع حرب شاملة.
وفي الختام، لابد من الإشارة إلى أن التعديلات بشأن العقيدة النووية الروسية التي أقرها الرئيس فلاديمير بوتين بعد اجتماعه بمجلس الأمن القومي الروسي لا تنفصل عن هذه الأحداث الجسيمة. وهدف التعديلات توجيه رسائل إلى واشنطن والناتو بأن زمن العربدة والهيمنة قد ولى، وأن العالم يتغير.
يحيى كوسا