بعد ستة عشر عاماً، منظمة البريكس، المنظمة الأقوى عالمياً، تتحدى الهيمنة الغربية وتغير المسار المستقبلي للتاريخ
انتظر العالم طويلاً أن تكسر مجموعة البريكس، التي تمتلك الاقتصاد الأقوى، حدة الهيمنة الأمريكية والتسلط على العالم. وفي الآونة الأخيرة، وتحديداً بعد اندلاع حرب أوكرانيا، تنمرت الولايات المتحدة الأمريكية ومن تحت ذراعها دول الاتحاد الأوروبي، وسعت إلى تقييد يدي روسيا وخنقها اقتصادياً لكي يراوح التغيير العالمي في مكانه. ولكن روسيا استطاعت أن تسخر كل الأدوات بفاعلية وتتصدر المكانة التي تستحقها سياسياً واقتصادياً.
ومع اندلاع حرب “طوفان الأقصى”، جددت أمريكا ثوب السيطرة في دعمها المطلق لإسرائيل، وأضافت إلى وحشية هذه الحرب بعداً آخر في البحث عن توازن عالمي جديد. فهل توقيت انعقاد قمة البريكس وتنشيط أدائها هو رد على التفرد الأمريكي الذي يهدد العالم بحرب عالمية ثالثة؟
لقد حمل الإعلان النهائي لقمة البريكس في قازان الروسية رموزاً ومعاني سياسية جديدة، وثبّت روسيا كقوة عالمية صاعدة، ووجّه رسائل تحدٍ للغرب الذي يحاول، بقيادة الولايات المتحدة، الاستفراد بالعالم والهيمنة عليه وخنق روسيا ومحاصرتها اقتصادياً وسياسياً. إلا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفض عن العالم كله غبار التسلط والهيمنة، واستطاع من خلال الحشد العالمي الكبير الذي شارك في القمة السادسة عشرة لمنظمة بريكس في قازان بجمهورية تتارستان الروسية، أن يحقق انتصاراً معنوياً عكسته صورة الاجتماع التاريخي.
يحمل هذا الاجتماع طابعاً اقتصادياً، إلا أن طبيعة المعركة التي تخوضها روسيا مع الغرب وحلف الناتو في أوكرانيا أعطت الاجتماع بعداً سياسياً كاملاً. وأكد عجز الغرب وعدم قدرته على فرض قيمه ومفاهيمه على العالم وفشله في محاصرة روسيا وإخفاقه في عزلها. فقد جمعت منظمة البريكس، برئاسة الرئيس بوتين، بالإضافة إلى روسيا الدولة المضيفة، رؤساء الصين والهند والبرازيل وإيران ومصر والإمارات وإثيوبيا وجنوب أفريقيا وتركيا، وممثلين عن 40 دولة، بينهم 24 دولة تمثلت بقادتها ورؤسائها.
وشكّل حضور الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش ضربة قاسية للغرب الذي كان يعمل خلال سنوات لتشويه صورة روسيا وقيادتها. إلا أن صورة الانتصار التي صدرت عن قمة البريكس السادسة عشرة ستبقى ماثلة في الأذهان لسنوات قادمة، لأن القمة كما أرادها الرئيس بوتين منطلقاً وحافزاً للتغيير على مستوى العالم في المواضيع الأكثر أهمية وهي السياسة والاقتصاد والأمن، وقد تحقق هذا. خاصة مع انضمام دول جديدة مثل السعودية والإمارات وإثيوبيا وإيران ومصر، ورغبة تايلاند وتركيا وماليزيا ودول أخرى في الانضمام إلى هذا الاجتماع العالمي الكبير، ليس من منطلق العداء لأمريكا، وإنما من منطلق عدم إيمان هذه الدول بالنظام القائم الذي تفرضه الولايات المتحدة على العالم وتمارس من خلاله ازدواجية المعايير وتضرب عرض الحائط بالقوانين والشرائع الدولية وتعتمد مبدأ شريعة الغاب.
وكانت الرؤية موحدة حول ضرورة تفكيك المنظومة الأمريكية العدائية وتشكيل منظومة جديدة بمفاهيم جديدة من بوابة الانفتاح والتنوع وإرساء قواعد وركائز قوية ومتينة للاقتصاد العالمي.
لقد عكس البيان الختامي وإعلان قمة قازان رؤية جديدة للعالم الجديد اقتصادياً ومالياً وسياسياً وثقافياً. وبدا من المشهد الذي صدر عن القمة التاريخية، التي أرادها الرئيس بوتين بداية تحول عالمي وتاريخي، أنه على الرغم من انشغال العالم بالحروب التي تغذيها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وأوكرانيا، فإن الإعلان النهائي لقمة قازان كان سياسياً بامتياز، ووجّه رسائل قوية للغرب بأن عصر الهيمنة قد ولى إلى غير رجعة.
إن روسيا، رغم الحصار والعقوبات الغربية والحرب المستمرة منذ أكثر من سنتين ونصف، استطاعت أن تحقق نمواً اقتصادياً وحضوراً دولياً وازناً على كل الأصعدة وأن تشارك في الجهود المبذولة لوضع حد للمشكلات والأزمات التي تعصف بالعالم. وأكد الرئيس بوتين أن روسيا تسعى للمساهمة في استقرار الشرق الأوسط وحذر من أن العالم على شفا حرب واسعة.
لم يترك إعلان قمة البريكس السادسة عشرة شاردة ولا واردة إلا وتمعن فيها وقدم رؤيته بشأنها. حازت الحرب في أوكرانيا اهتماماً خاصاً، وكانت قمة قازان بحد ذاتها رسالة سلام وتحدٍ في نفس الوقت إلى الغرب، الذي يدعم نظام زيلينسكي بالأسلحة والمرتزقة ويشجعه على قصف الأراضي الروسية. وكان موضوع إحلال السلام في أوكرانيا الأكثر أهمية في هذه القمة خلال اللقاءات الثنائية التي أجراها الرئيس بوتين على هامش القمة وخلال الإعلان النهائي أيضاً. حيث تبذل الصين والهند والبرازيل ودول عديدة جهوداً مكثفة لوقف الحرب التي استطاعت روسيا أن تحقق، على عكس ما يريده الغرب، إنجازات حقيقية ليس في الميدان وإنما على الساحة الدولية أيضاً من خلال تكريس أهدافها من العملية العسكرية الخاصة في الدونباس.
كما اهتمت قمة بريكس في قازان بالوضع في الشرق الأوسط، وشدد البيان النهائي لدول بريكس على الاحترام غير المشروط لسيادة سوريا وحماية سلامة أراضيها. وأدانت دول المجموعة الاعتداء الإسرائيلي على السفارة الإيرانية وتفجير أجهزة الاستدعاء /البيجر/ في لبنان. وأعربت دول بريكس عن قلقها البالغ إزاء الصراعات المستمرة وعدم الاستقرار في المنطقة، وخاصة في لبنان وقطاع غزة، مشددة على ضرورة الحفاظ على سيادة لبنان وسلامة أراضيه وتهيئة الظروف لحل سياسي دبلوماسي من أجل الحفاظ على السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، مع التشديد على أهمية الامتثال الصارم لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، مطالبة كيان الاحتلال الإسرائيلي بالامتثال للقانون الدولي.
وجددت مجموعة بريكس دعمها لقبول دولة فلسطين عضواً كامل العضوية في الأمم المتحدة في سياق الالتزام الثابت بحل الدولتين على أساس القانون الدولي.
مواضيع كثيرة سياسية واقتصادية وأمنية تمت مناقشتها خلال قمة قازان التاريخية لدول مجموعة البريكس، وبخاصة موضوعي الحرب في الشرق الأوسط وأوكرانيا، والمبادرة الصينية البرازيلية لحل الأزمة في أوكرانيا بالنظر إلى ما تحمله هذه الحروب من مخاطر على الأمن والسلام والاستقرار في العالم، عدا عن كون منطقة الشرق الأوسط تتمتع بأهمية خاصة كمصدر للطاقة وأساس للاستقرار العالمي.