هل خسر الاحتلال الحرب الاقتصادية؟.. يوماً بعد يوم، بات “الإسرائيلي” ينظر إلى المستقبل على أنه بالغ القتامة، وأنه لا أمل في عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل السابع من / تشرين الأول 2023، وأن ثقته باتت شبه منعدمة في مستقبل الدولة وحكومتها واقتصادها وقطاعها المالي والمصرفي وعملتها.
دليل ذلك موجة نزوح الأموال المتواصلة والضخمة والتي باتت تتم بشكل جماعي من داخل دولة الاحتلال منذ انطلاق الحرب على غزة، والإقبال الشديد على تهريب الأموال أو تحويلها من البنوك والبورصة الإسرائيلية إلى الخارج، وشراء أصول وأسهم وذهب وجنسيات في دول مثل الولايات المتحدة والبرتغال وقبرص واليونان.
وتزيد موجة وعمليات هروب الأموال تلك مع إخفاق جيش الاحتلال في حسم الحرب لمصلحته سواء داخل غزة أو في جنوب لبنان، وتزايد المخاوف من اندلاع حرب شاملة في الشرق الأوسط، مع زيادة وتيرة المواجهات بين طهران وتل أبيب، أو بين (إسرائيل) ولبنان، وانفلات العجز المالي وتكاليف الحرب الباهظة، ومخاوف متزايدة من امتداد الحرب الحالية لتصل إلى (إسرائيل) كلها، بما فيها القدس المحتلة وتل أبيب، المركزان التجاريان والسياحيان الرئيسيان.
خبراء الاقتصاد على قناعة بأن الأسوأ لم يأت بعد
وفي سؤال هل خسرت “اسرائيل ” الحرب يقول الخبير الاقتصادي هشام خياط : التقارير المنشورة تؤكد أن (إسرائيل) تواجه خسائر اقتصادية جسيمة بسبب استمرار الحرب في قطاع غزة فرغم الحديث المستمر عن تحقيق “نصر ” من قبل نتنياهو، فإن الواقع الاقتصادي يظهر صورة مختلفة تماماً، حيث تعاني” إسرائيل ” من ركود اقتصادي قد يستمر لفترة طويلة.
ومنذ بداية الحرب، انكمش الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة 1.5%، وفقاً لتقديرات رسمية. هذه الأرقام تعكس عدم قدرة الاقتصاد على التعافي من الأضرار التي لحقت به خلال الأسابيع الأولى من الحرب. ويشير تقرير لـ”هآرتس “إلى أن الحرب تسببت في تراجع كبير في الصادرات والاستثمارات، إلى جانب ذلك، خفضت جميع وكالات التصنيف الائتماني الكبرى –موديز وستاندرد آند بورز وفيتش– التصنيف الائتماني لدولة الاحتلال، ما زاد من تعقيد الأمور الاقتصادية.
وهذه التخفيضات جاءت بسبب ارتفاع معدلات العجز في الموازنة واستمرار الإنفاق الكبير على الحرب. وحذرت ستاندرد آند بورز من أن الاقتصاد “الإسرائيلي” قد يسجل نمواً صفرياً في عام 2024، بينما يتوقع نمواً ضعيفاً يبلغ 2.2% في 2025، وهي أرقام أقل بكثير من التوقعات السابقة.
تكاليف الحرب وتأثيرها المباشر
ويضيف الخياط : أحد أبرز جوانب التأثيرات الاقتصادية للحرب هو الزيادة الكبيرة في الإنفاق العسكري. حيث تشير التقديرات إلى أن فاتورة الحرب تجاوزت المليارات، مع ارتفاع تكلفة شراء الوقود والمعدات العسكرية. على سبيل المثال، أنفقت شركة الكهرباء “الإسرائيلية ” مئات الملايين من “الشواكل “على شراء السولار لتأمين إمدادات الطاقة في حالات الطوارئ، وهو ما أثر في نتائجها المالية بشكل ملحوظ، فالتكاليف الباهظة ستستمر في الضغط على ميزانيتها لسنوات قادمة.
ومع خفض التصنيف الائتماني، أصبح من الصعب اقتراض الأموال بأسعار فائدة مناسبة. هذا يؤثر بشكل مباشر في قدرة الكيان المحتل على تمويل مشاريع إعادة الإعمار أو حتى سد العجز المتزايد في الموازنة. ووفقًا لـ(هآرتس)، بلغت توقعات العجز في الموازنة لعام 2025 أرقاماً قياسية بسبب الإنفاق العسكري والمساعدات الإنسانية.
صار الإسرائيليون يلجؤون إلى طرق احتيال لتسهيل تهريب أموالهم من الداخل عبر الاستثمار المكثف في البورصات العالمية، وفتح حسابات في البنوك الغربية، وشراء عقارات وأراض.
وبسبب تنامي تلك الظاهرة الخطيرة وتحول هروب رأس المال إلى موجة وظاهرة جماعية، تعالت الأصوات داخل دولة الاحتلال للمطالبة بوضع قيود على عمليات التحويل، بل منع كل أشكال التهريب وطرقه، والتي قد تؤدي بالاقتصاد إلى الانهيار التام كما حدث مع بلدان أخرى.
كما إن “إسرائيل ” تمر ولأول مرة بأطول حرب وأعلاها تكلفة في تاريخها كما يقول أعضاء في حكومتها المتطرفة. وبات خبراء الاقتصاد الإسرائيليون على قناعة بأن الأسوأ لم يأت بعد، وأنهم مستسلمون لتدهور الأمور إلى الأسوأ.
لو وضعت الحرب أوزارها.. المستثمرون وأصحاب المدخرات والأموال غير متأكدين من قدرة “إسرائيل” على التعافي
حتى لو وضعت الحرب أوزارها فإن المستثمرين وأصحاب المدخرات والأموال غير متأكدين من قدرة (إسرائيل) على التعافي الاقتصادي، والإفلات من مخاطر الركود، وسد هوة عجز الموازنة القياسي، في ظل الضغوط المالية الكبيرة الناتجة عن تكاليف الحرب، ومعاناة القطاع المالي والتجاري، وزيادة عمليات هروب الأموال بطريقة كبيرة وسريعة وغير مشروعة بسبب حالة عدم الاستقرار وزيادة المخاطر الجيوسياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وانعدام الثقة في الكيان العبري، وتراجع التصنيف الائتماني، وتدافع المستثمرين المحليين والأجانب نحو الخارج، وتهاوي الاستثمار المباشر، خاصة في قطاعات حيوية مثل قطاع التقنية وتكنولوجيا المعلومات.
حالة عدم الثقة الواسعة تلك يمكن رصدها بسهولة في عدة مؤشرات، الأول: زيادة حالات نزوح الأموال من “إسرائيل “، فالبنوك الإسرائيلية تعاني هروب المدخرات. والبنوك الثلاثة الكبرى رصدت زيادة كبيرة في عدد العملاء الذين يطلبون تحويل مدخراتهم إلى بلدان أخرى أو ربطها بالدولار، وفق تقرير حديث عن مجلة ذا إيكونوميست البريطانية.
تدفق رؤوس الأموال من (إسرائيل) إلى الخارج قفز بنسبة 62% خلال العام الأول للحرب، وهناك انخفاض حاد في الاستثمارات المباشرة.
الثاني: قفزة التحويلات المالية من (إسرائيل) إلى الخارج بما يصل إلى سبعة أضعاف منذ اندلاع الحرب، ووفق بيانات صادرة عن شركة Trading Economics المتخصصة في الاستشارات المالية الدولية فإنه في عام 2023، تم تحويل نحو 5.6 مليارات دولار من (إسرائيل) إلى الخارج، بما يعادل سبعة أضعاف التحويلات التي جرت في الأشهر الستة السابقة للحرب.
الثالث: ما كشفته وسائل إعلام عبرية هذا الأسبوع، عن تسجيل قفزة كبيرة في هروب رؤوس الأموال من دولة الاحتلال للاستثمار في الخارج. فوفق تحليل نشره موقع كالكاليست الاقتصادي العبري، فإن تدفق رؤوس الأموال من (إسرائيل) إلى الخارج قفز بنسبة 62% خلال العام الأول للحرب، وهناك انخفاض حاد في الاستثمارات المباشرة، وإن هذا الأمر كان له تداعيات على ديناميكية الأنشطة الاقتصادية في (إسرائيل)، وإضعاف قيمة الشيكل والضغط على احتياطي النقد الأجنبي.
الرابع: حولت المؤسسات العاملة داخل (إسرائيل) إلى الخارج أموالاً تصل إلى نحو 151 مليار شيكل (40.4 مليار دولار) منذ بداية أكتوبر 2023، وفق بيانات مالية أوردها “كالكاليست” أيضاً، منتصف / أيلول الماضي.
الخامس: لأول مرة، منذ فترة طويلة، تم تسجيل صافي استثمار مباشر سلبي في الربع الأول من عام 2024، إذ استثمر الإسرائيليون في الخارج أكثر من استثمار الأجانب في الداخل، والتي انخفضت إلى النصف من 12 مليار دولار في عام 2023 إلى 6 مليارات دولار في عام 2024.
السادس: زيادة استثمارات الإسرائيليين في البورصات الأميركية ” وول ستريت”، وتضاعف تلك الاستثمارات في مؤشر الأسهم الأميركية “ستاندرد آند بورز 500” والذي يضم أكبر الشركات في الولايات المتحدة بأكثر من الضعف منذ اندلاع الحرب، وكذا الحال في ما يخص المؤشرات الأخرى. وهذا الأمر يمثل مخاطر على بورصة تل أبيب وضغطاً على الشيكل والاقتصاد الإسرائيلي.
هل كان بالإمكان تجنب هذا السيناريو؟
يقول خبراء اقتصاديون إن الحرب كان يمكن أن تُختصر لو تم تحديد أهداف عسكرية أكثر واقعية. لكن “هآرتس ” تحذر من أن التصعيد مع إيران يمكن أن يغير الوضع بشكل جذري. إذا قررت (إسرائيل) استهداف منشآت النفط الإيرانية، يمكن أن يتوقف نحو 4 ملايين برميل من النفط يومياً عن التدفق إلى السوق، ما قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط عالمياً بمقدار يصل إلى 13 دولاراً للبرميل، وفقاً لتقديرات متخصصين.
وبالتالي فإن التحديات الاقتصادية ستظل قائمة لفترة طويلة. حيث تتوقع ستاندرد آند بورز أن الناتج المحلي الإجمالي للفرد في “إسرائيل ” سينكمش هذا العام بنسبة 0.2%، وهو ما يعكس تدهور مستوى المعيشة. كما إن التضخم مستمر في الارتفاع، ما يزيد من الضغوط على المستوطنين .
وفي حين أن نتنياهو يسعى لإعلان ” نصر ” في غزة، إلا أن الحقائق الاقتصادية تشير إلى أن هذا النصر قد يكون مكلفاً للغاية. التحديات الاقتصادية التي يواجهها كيان الاحتلال الإسرائيلي ستستمر في التأثير لسنوات قادمة، وهو ما يجعل من الصعب تحقيق استقرار اقتصادي قريب في ظل الظروف الحالية.
بل صار “الإسرائيليون” يلجؤون إلى طرق احتيال لتسهيل تهريب أموالهم من الداخل إلى الخارج عبر الاستثمار المكثف في ملاذات آمنة والبورصات الأميركية والأوروبية، وفتح حسابات مصرفية في البنوك الغربية، والحصول على قروض خارجية، وشراء عقارات وأراض، والحصول على الإقامة والجنسية في بلد آخر.