موسكو تعلن استئناف الجهود للتقريب بين أنقرة ودمشق بعد أيام من قمة البريكس الناجحة
الوساطة الروسية للتقريب بين دمشق وأنقرة تنشط من جديد رغم انشغال المنطقة والعالم بحربي أوكرانيا وغزة والانتخابات الأمريكية. فروسيا التي بذلت على مدار سنوات جهودا جبارة لتقليل التناقضات بين سورية وتركيا وجدت الوقت مناسبا بعد الأجواء الإيجابية والإجراءات التي اتخذتها تركيا خلال الأشهر الماضية فيما يتعلق بفتح معبر أبو الزندين رغم معارضة المجموعات المسلحة التي استشعرت الخطر من اقتراب نهاية مشروعها الإرهابي.
الاهتمام الروسي بملف العلاقات السورية التركية وإجراء مصالحة بين الرئيس بشار الأسد والرئيس رجب طيب أردوغان ليس جديدا، بل مستمر منذ القمة الروسية التركية بين الرئيسين فلاديمير بوتين وأردوغان في سوتشي في آذار 2020، وما تلاه من اجتماعات ثلاثية إيرانية روسية تركية وفق صيغة أستانا، وصولا إلى لقاءات موسكو الرباعية قبل الانتخابات الرئاسية التركية على مستوى وزراء الدفاع والخارجية للدول الأربعة روسيا وتركيا وإيران وسورية، ودخول العراق على خط الوساطة في حزيران الماضي عام 2024. وصولا إلى هذه اللحظة التي تدفع بجميع الأطراف لتسريع هذا الملف الذي يحظى باهتمام إقليمي وعالمي بالنظر إلى التداعيات الخطيرة المحتملة لحرب غزة على المنطقة كلها.
وهذا ما دفع القيادة الروسية من جديد لتأخذ زمام المبادرة وتعطي هذه القضية جل اهتمامها بعد الإشارات الإيجابية من الرئيسين بشار الأسد ورجب طيب أردوغان، وبعد قمة البريكس التاريخية الناجحة التي أعلنت تركيا رغبتها بالانضمام إليها. ودلالات هذا الإعلان تشير إلى حسم تركيا لأمرها في الابتعاد أكثر عن الغرب والولايات المتحدة، خصوصا وأن الخلافات واسعة بين واشنطن وأنقرة منذ انتهاء الحرب على سورية وهزيمة الإرهاب، بسبب دعم واشنطن للأكراد الانفصاليين في سورية، والذين تعتبرهم تركيا منظمات إرهابية تابعة لحزب العمال الكردستاني الذي يهدد وحدة تركيا وأمنها القومي.
وسط كل هذه المعطيات، جاء تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف حول نقطة الخلاف الأساسية بين دمشق وأنقرة، والتي تحول دون إعادة العلاقات بين البلدين، بمثابة إعلان روسي للبدء جديا بمعالجة هذا الخلاف وإعادة العلاقات.
وقال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مقابلة صحفية إن الحكومة السورية تصر على أنه يجب في البداية اتخاذ قرار بشأن انسحاب الوحدة العسكرية التركية من أراضي سوريا. من جانبها، تؤكد تركيا من حيث المبدأ التزامها بسيادة سوريا ووحدة أراضيها، لكن الجانب التركي يقترح العودة إلى مسألة سحب قواته في وقت لاحق.
تصريحات الوزير لافروف في الزمان والمكان تحمل الكثير من التفاؤل والحسم والجدية، خاصة وأن روسيا كانت قد جمدت جهودها منذ حزيران الماضي لإعطاء فرصة للجهود التي أعلنت عنها الحكومة العراقية في هذا المجال. إلا أن حظوظ نجاح المساعي العراقية بقيت ضيقة بسبب انخراط دول عظمى كروسيا والولايات المتحدة ودول إقليمية كإيران، بالإضافة إلى اهتمام سورية وتركيزها على إعادة العلاقات مع الدول العربية الخليجية والأردن ومصر، عدا عن العدوان الإسرائيلي الوحشي على غزة.
التصريحات الإيجابية التي أطلقها الرئيس بشار الأسد خلال خطابه أمام مجلس الشعب بما يخص الشروط السورية لإعادة العلاقات مع تركيا، وتأكيده على مرجعية الانسحاب التركي من سورية، كان لها أصداء إيجابية في تركيا. وخلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، دعا الرئيس أردوغان إلى لقاء بينه وبين الرئيس الأسد، وعاد وكرر الدعوة خلال قمة البريكس في مدينة قازان الروسية. هذا الإلحاح من الجانب التركي جاء متزامنا مع سلسلة إجراءات وقرارات تركية ميدانية وسياسية وإعلامية إيجابية. ويبقى السؤال عن أسباب إلحاح أردوغان على لقاء الرئيس الأسد، وفرص نجاح الجهود الروسية، وتداعيات أي اتفاق على المعارضة السورية المدعومة من تركيا وعلى ميليشيا قسد المدعومة أمريكيا، وعلى الوجود الأمريكي غير الشرعي في الجزيرة والتنف.
لا شك أن التحديات كبيرة في مواجهة الوساطة الروسية، فالمعارضة السورية التي لا تعترف بها الحكومة السورية وتعتبرها مجرد جماعات إرهابية مرتبطة بالخارج ستكون أول من سيدفع الثمن الباهظ من أي تقارب سوري تركي، خاصة بعد أن فقدت غطاءها وشرعيتها بعد عودة العلاقات بين سورية والدول العربية في ضوء استمرار العمل على تحسين العلاقات السورية العربية وفق خطة خطوة مقابل خطوة.
أما ميليشيا قسد التي تسيطر على الجزيرة السورية ومنابع النفط بحماية الاحتلال الأمريكي، فإنها تعارض أي تقارب سوري تركي أيضا. رغم أنها ترتبط بعلاقات محدودة مع الحكومة السورية وروسيا، إلا أن إعادة العلاقات بين سورية وتركيا ونجاح روسيا في تخفيف التناقضات وحلحلة الخلافات لإعادة المياه إلى مجاريها بين دمشق وأنقرة سيكون على حساب هذه الميليشيات ومشروعها، خاصة وأن الوزير لافروف حذر هذه الميليشيات المرتبطة بالاحتلال الأمريكي في سورية مرارا بأن مصيرها سيكون كمصير الموالين للاحتلال الأمريكي في أفغانستان.
إذن، مسألة إعادة العلاقات بين أنقرة ودمشق أصبحت مسألة وقت بعد أن انضجتها الدبلوماسية الروسية على نار هادئة وعلى مدى أربع سنوات من الجهود. بدأت مع تفاهمات أستانا التي تستند إلى القرار الأممي 2254 الذي يدعو إلى الحفاظ على وحدة سورية وسيادتها واستقلالها، وبالاسترشاد باتفاقية أضنة التي وقعتها سورية وتركيا عام 1998، وبالأجواء الإيجابية التي أشاعتها تصريحات الرئيسين الأسد وأردوغان رغم كل التراكمات والتحديات التي أفرزتها خلافات البلدين خلال الحرب على سورية.
ومع أن مصالح البلدين اللذين يعانيان من أزمة اقتصادية صعبة جدا وخاصة سورية سوف تتحقق عبر فتح الممرات التجارية وطرق المواصلات لمرور البضائع والأشخاص كما كانت في العام 2011 قبل الحرب، وبذلك يتم فك الحصار ليس عن سورية فحسب، بل عن تركيا أيضا، لأن سورية ممر طبيعي لتركيا إلى الدول العربية. إلا أن ثمة عقبة كبيرة تعترض المصالحة السورية التركية والجهود الروسية الكبيرة، وهذه العقبة تتمثل بالوجود الأمريكي غير الشرعي في سورية وبالموقف الأمريكي من الحكومة السورية، حيث تقوم واشنطن بسرقة الموارد والثروات السورية منذ عشرة أعوام وتحرم الشعب السوري منها وتدعم الإرهاب والانفصاليين.
وخلال الحرب الدائرة منذ عملية طوفان الأقصى في غزة ولبنان، تعرضت القواعد الأمريكية في سورية لهجمات مكثفة من قبل المقاومة العراقية على وجه الخصوص، بالإضافة إلى قيام أبناء العشائر العربية بهجمات واسعة، إلا أن ميليشيا قسد الانفصالية وقوات الاحتلال الأمريكية كانت تواجه هذه المقاومة الشعبية بعنف. ومع ذلك، لابد من الإشارة إلى ما أوردته بعض وسائل الإعلام من تحليلات، خصوصا بعد أن غضت إدارة بايدن الطرف عن العلاقات المتنامية بين سورية والدول العربية وعودة سورية إلى الجامعة العربية، كما سحبت قانون “مناهضة التطبيع مع سورية” في أيار الماضي من التداول، وهو القانون الذي يفرض حصارا كاملا حتى على الأشخاص الذين يزورون سورية.
وفي ذلك إشارة إلى أن واشنطن، في ضوء نتائج الحرب على الإرهاب في سورية وتداعيات الحرب الإسرائيلية على غزة وعدم انخراط سورية مباشرة في هذه الحرب، بدأت تبدل مواقفها وتتراجع كغيرها من الدول التي حاربت إلى جانب الإرهاب ضد الحكومة السورية. ليبقى الرهان الحقيقي على الجهود الروسية التي تشهد تسارعا وزخما جديدين لإعادة العلاقات بين سورية وتركيا وفتح صفحة جديدة من التعاون بين أنقرة ودمشق بما يعزز أمن المنطقة واستقرارها ويساهم في نشر السلام في العالم. فهل تنجح الجهود الروسية هذه المرة؟
يحيى كوسا