بحسب العقيدة الجديدة، قد تفكّر روسيا في توجيه ضربة نووية إذا تعرّضت هي أو حليفتها بيلاروسيا لعدوان ما باستخدام أسلحة تقليدية كالطائرات والصواريخ الموجّهة بعيدة المدى والطائرات المسيّرة التي تهدّد سيادتهما.
بعد أشهر من التلويح بتغيير العقيدة النووية الروسية وقّع الرئيس بوتين الثلاثاء 19 تشرين الثاني/نوفمبر على مرسوم رئاسي يحدّد شروط استخدام الأسلحة النووية الروسية مستقبلاً .
واعتبر المرسوم “الردع المضمون لأيّ عدوان محتمل على الاتحاد الروسي أو حلفائه من أهم أولويات الدولة، وذلك لاحتواء العدوان من خلال القوة العسكرية الروسية بما في ذلك الأسلحة النووية”. وبرغم أن العقيدة النووية الجديدة تؤكد “أن سياسة الدولة في مجال الردع النووي هي سياسة دفاعية بطبيعتها”، لكن الجديد هو أن روسيا يمكن أن تردّ باستخدام الأسلحة النووية إذا تعرّضت هي أو حلفاؤها لعدوان من جانب أي دولة أو تحالف عسكري، حتى لو كان مصدر هذا العدوان دولة غير نووية ولكنها مدعومة من دولة أو تحالف يمتلك أسلحة نووية أو تكون عضواً في تحالف معادٍ لروسيا.
وبحسب العقيدة الجديدة، قد تفكّر روسيا في توجيه ضربة نووية إذا تعرّضت هي أو حليفتها بيلاروسيا لعدوان ما باستخدام أسلحة تقليدية كالطائرات والصواريخ الموجّهة بعيدة المدى والطائرات المسيّرة التي تهدّد سيادتهما أو سلامة حليفاتها.
واكتسب الإعلان عن العقيدة النووية الجديدة أهمية إضافية لتوقيته الزمني الذي سبق قرار الرئيس بايدن بالسماح لأوكرانيا باستخدام الصواريخ الأميركية بعيدة المدى (صواريخ أتاكمز ) ضد الأهداف الروسية في العمق الروسي.
وهو ما أعلنت عنه لندن أيضاً (صواريخ ستورم شادو) في حكومة حزب العمال “اليساري”، مع المعلومات التي تتوقّع لباريس أيضاً أن تتخذ قراراً مماثلاً على الرغم من تهرّب برلين من اتخاذ موقف مماثل بعد المكالمة الهاتفية بين بوتين والمستشار الألماني شولتز الذي سبق له أن اتخذ منذ اليوم الأول للحرب الأوكرانية أشدّ المواقف ضدّ روسيا.
في الوقت الذي لم يتذكّر فيه الكثيرون أن تركيا قد تكون ضمن مجموعة الدول التي استهدفتها العقيدة النووية الروسية الجديدة لأسباب عديدة.
فالتاريخ يذكّرنا بحادث إسقاط طائرة التجسس الأميركية U-2 Dragon Lady التي أقلعت من قاعدة إنجيرليك الأميركية جنوب تركيا في مهمة استطلاعية تشمل المنطقة الممتدة من باكستان وحتى النرويج، بحسب اعترافات الطيار فرانسيس جيري باورز الذي ألقي القبض عليه بعد أن اسقطت الدفاعات الجوية الروسية طائرته.
كما اعترف بأنه كان يقوم بمثل هذه المهمة منذ عام 1956 حيث توجد في قاعدة إنجيرليك مجموعة خاصة مكلّفة بهذه المهمة السرية.
وعلًق الرئيس الروسي خروتشوف على الحادث في 3 أيار/مايو 1960 أيّ بعد الحادث بيومين، وقال “إن العملية كانت تهدف لنسف مساعي القمة المرتقبة بينه وبين الرئيس الأميركي أيزنهاور “، وتوعّد الدول التي تسمح للطائرات الأميركية بالانطلاق من أراضيها (من دون أن يسمّي تركيا بالاسم)، وقال “إننا لن نتردّد بتدمير القواعد الأميركية والأطلسية التي ستستخدم ضدنا”، وكان عددها آنذاك في تركيا أكثر من مئة قاعدة ومحطة تجسس ومراكز تنصّت بحرية وجوية وبرية منتشرة في عموم تركيا لمراقبة مجمل التحرّكات العسكرية السوفياتية وخاصة في البحر الأسود حيث كانت جميع الدول التي تطلّ عليه أعضاء في المعسكر الشيوعي.
حالها حال دول أوروبا الشرقية المجاورة لتركيا ومنها بلغاريا ورومانيا ويوغسلافيا. وجاءت أزمة الصواريخ الروسية في كوبا لتؤكد أهمية مكانة تركيا في مجمل الحسابات والمخططات الأميركية المعادية للاتحاد السوفياتي ولاحقاً روسيا بعد سقوط وتمزّق الاتحاد المذكور.
ففي 15 نيسان/أبريل 1961 وبعد تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة في كانون الثاني/يناير 1961 أعطى جون كنيدي الضوء الأخضر لتنفيذ غزو خليج الخنازير للإطاحة بحكم كاسترو، ولكن قوبل الهجوم برد عنيف من كوبا التي حقّقت انتصارها الأول على أميركا في 19 نيسان/أبريل 1961.
ومع تزايد المخاوف الكوبية من عمليات عسكرية مستقبلية وافق خروتشوف على تزويد كوبا بصواريخ أرض-أرض وأرض-جو، وبالتالي إرسال صواريخ نووية إلى كوبا رداً على نشر الولايات المتحدة صواريخ “جوبيتر” في كل من إيطاليا وتركيا في العام نفسه.
واتسمت عملية نقل الصواريخ بالسرية التامة حيث استخدم السوفيات نحو 60 سفينة تجارية ترافقها ثلاث غوّاصات لإيصال هذه المعدات إلى كوبا. ونجح السوفيات حتى نهاية تموز/يوليو في إيصال وتسليم 24 منصة إطلاق صواريخ، وأكثر من 40 صاروخاً باليستياً، وعدد مماثل من الرؤوس النووية، إضافة إلى ما يزيد عن ألف عسكري وخبير لتدريب الجيش الكوبي على استعمال هذه الأسلحة.
وفي 14 تشرين الثاني/نوفمبر 1962 اكتشفت طائرة تجسس أميركية اماكن منصات إطلاق الصواريخ، فجاء الرد سريعاً على لسان الرئيس كنيدي الذي فرض في 22 تشرين الأول/أكتوبر حصاراً بحرياً على كوبا، وأمر بتفتيش السفن المتجهة إليها وتسيير طلعات جوية استطلاعية فوق مواقع المنصات باستمرار بعد المعلومات الاستخباراتية التي توقّعت للمنصات السوفياتية أن تكون جاهزة في غضون أسبوع واحد فقط.
وعلى الرغم من ردّ الرئيس خروتشوف العنيف على قرار الرئيس كنيدي مهدّداً إياه بالردّ على أيّ استفزاز أميركي إلا أن الرسالة التي بعث بها إلى كنيدي في 26 تشرين الأول/أكتوبر ساهمت في إنهاء التوتر وتحقيق الانفراج، أولاً العسكري ثم السياسي بين واشنطن وموسكو وقرّرتا إنشاء أول خط هاتفي أحمر مباشر بين الرئيسيين.
ووفقاً للاتفاق تعهّدت واشنطن بعدم غزو كوبا ورفع الحصار عنها وسحب صواريخ ثور وجوبيتر، ويصل مداها إلى 3000 كم وتحمل رؤوساً نووية من قواعدها في تركيا وإيطاليا وبريطانيا مقابل إزالة الصواريخ السوفياتية ومنصاتها من كوبا.
وسبق لأميركا أن استخدمت هذه القواعد في العديد من المناسبات وأهمها حرب السويس عام 1956، والتدخّل العسكري في لبنان عام 1958 ومحاولة التدخّل في سوريا والعراق ضد الانقلاب الذي أطاح بالنظام الملكي هناك عام 1958، والأهم من كل ذلك خلال سنوات ما يسمّى بـ “الربيع العربي“.
في الوقت الذي تستمر فيه واشنطن بالاستفادة من قاعدتي إنجيرليك وكوراجيك ضمن مخططاتها ومشاريعها في سوريا والعراق وإيران، وكل ذلك بالتنسيق مع قواعدها الرئيسية في قطر، وهي أيضاً على اتصال دائم مع القواعد الأميركية في دول المنطقة بما في ذلك قواعدها في شمال شرق سوريا.
وربما لهذا السبب سبق للرئيس بوتين أن قال إن موسكو لن تتردّد في إرسال كلّ أنواع الأسلحة والمعدات العسكرية للدول الحليفة لها في حال وقوع أي مواجهة مباشرة بينها وبين المعسكر الأطلسي.
وجاء خطاب الرئيس بوتين يوم الخميس (11/21) ليعكس مدى جدية الموقف الروسي حيث قال بوتين “إن الصراع الإقليمي الذي أثاره الغرب في أوكرانيا قد اكتسب طابعاً عالمياً ” وأضاف ” في حالة تصعيد الأعمال العدوانية، سنردّ بشكل حاسم وبطريقة مماثلة، وإنني أوصي النخب الحاكمة في تلك الدول التي لديها خطط لاستخدام قواتها العسكرية ضد روسيا أن تفكّر بجدية في هذا الموضوع “.
وأكد بوتين “أن موسكو تعتبر نفسها صاحبة الحق في استخدام أنواع الأسلحة كافة ضد المنشآت العسكرية في الدول التي تستخدم أسلحتها ضد روسيا أو تسمح لأميركا والحلف الأطلسي باستخدام أراضيها “.
وكشف الرئيس بوتين النقاب عن نظام صاروخي جديد متوسط المدى أجرى الجيش الروسي اختبارات ناجحة عليه يحمل اسم أوريشنيك، وتم تصنيعه رداً على الأعمال العدوانية لدول الحلف الأطلسي تجاه روسيا، وقال إن ” أنظمة الدفاع الأميركية في أوروبا لن تكن قادرة على اعتراض صواريخ أوريشنيك السريعة جداً“.
وتضع العقيدة النووية الروسية وحديث الرئيس بوتين تركيا ضمن أهداف الصواريخ الروسية في حال انفجار الوضع العسكري مع استمرار الاستفزازات الأميركية ـــــ البريطانية ضد روسيا من الأراضي الأوكرانية، ولاحقاً بولندا لتكون تركيا المحطة الثالثة في حسابات الرئيس بايدن قبل أن يغادر البيت الأبيض.
في الوقت الذي يراهن فيه الكثيرون على الموقف المحتمل للرئيس إردوغان، وله علاقات شخصية ورسمية مع الرئيس بوتين، وهو ما كان كافياً لعدم التزام أنقرة بالعقوبات الأميركية والأوروبية ضد روسيا منذ الحرب الأوكرانية وعلى الرغم من الموقف التركي المؤيد لكييف.
ويبقى الرهان الأخير على جنون الإدارة الأميركية التي قد تضع تركيا، وريثة الدولة العثمانية، وجهاً لوجه مع العدو التاريخي روسيا التي لن تتردّد في استهداف القواعد الأميركية في تركيا، وأهمها قاعدة إنجيرليك وفيها ما يزيد عن خمسين قنبلة أو رأساً نووياً لن تتردّد واشنطن في استخدامها ضدّ روسيا طالما أن تركيا والأتراك سيكونون ضحية مثل هذه المغامرة الجهنمية التي كانت اليابان ضحية لها عام 1945.
ومن دون أن يخطر على بال أحد أن الخطر الأكبر من كل ذلك هو ما يملكه الكيان الصهيوني من هذه الأسلحة النووية وحصل عليها خلال الأعوام 1955- 1957 بمساعدة فرنسية، ولاحقاً من دول غربية أخرى ما زالت تقف إلى جانب هذا الكيان الإجرامي في فلسطين ولبنان وقبل ذلك ضد سوريا وإيران.
في الوقت الذي يستمر فيه تعاطف أنظمة التواطؤ والعمالة العربية والإقليمية مع هذا الكيان المستفيد الوحيد من جميع القواعد الأميركية والأطلسية في المنطقة، وإنجيرليك هي الوحيدة التي فيها صواريخ نووية وتبعد عن قاعدتي حميميم وطرطوس الروسيتين نحو 200 كم فقط، في الوقت الذي لا يعرف فيه أحد هل وكيف ومتى وضد من ستستخدم تركيا صواريخ أس- 400 التي اشترتها قبل ثلاث سنوات من روسيا!