في تطور لافت للنظر في المشهد السوري، برز أحمد الشرع، المعروف سابقاً بأبي محمد الجولاني، كوجه جديد للقيادة في دمشق بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد. هذه التحولات تعكس تغييرات جذرية في الساحة السياسية والعسكرية، حيث تسعى القيادة الجديدة لتقديم نفسها كقوة قادرة على إخراج البلاد من دائرة الصراع المستمر منذ أكثر من عقد. الشراء، الذي قاد هيئة تحرير الشام سابقاً والمعروفة بتوجهاتها المتشددة، يحاول الآن إعادة تعريف دوره من خلال خطاب يركز على الاستقرار والسلام.
أعلن الشرع خلال مقابلات إعلامية متعددة أن الأولوية الكبرى لسوريا اليوم تكمن في تحقيق الاستقرار ومنع البلاد من الانزلاق في حروب أو نزاعات جديدة. هذا التوجه يبدو أنه محاولة لاستمالة الداخل والخارج على حد سواء، حيث تحتاج سوريا إلى دعم دولي لإعادة البناء، وإلى استعادة الثقة بين مكوناتها الداخلية بعد سنوات من الانقسام. الشراء أشار إلى أن النهج الثوري الذي تبنته بعض القوى سابقاً كان سبباً رئيسياً في استمرارية الصراع، مؤكداً على ضرورة تبني سياسات أكثر حكمة تهدف إلى تهدئة الأوضاع وترميم ما دمرته الحرب.
علاقات القيادة الجديدة مع روسيا، التي كانت الحليف الأقرب للنظام السابق، تشكل نقطة محورية في المرحلة الحالية. رغم أن الشرع أوضح أن القيادة الجديدة لا تسعى للعداء مع موسكو، إلا أن هناك دعوات لإعادة النظر في الاتفاقيات والسياسات السابقة التي كانت تخدم مصالح روسيا بشكل أساسي على حساب السيادة السورية. روسيا، بدورها، تجد نفسها في موقف حساس، فهي تسعى لضمان الحفاظ على قاعدتيها العسكريتين في حميميم وطرطوس، وتدرك أن انسحابها من المشهد قد يفتح الباب أمام قوى أخرى لملء الفراغ. المحادثات الجارية بين موسكو ودمشق الجديدة تحمل أبعاداً استراتيجية عميقة، حيث تحاول كل طرف تحقيق مكاسب دون الإضرار بالعلاقة بينهما.
استمرار العلاقات الطيبة مع روسيا يوفر للحكومة الجديدة دعماً دولياً يمكن الاستفادة منه على أكثر من صعيد. أولاً، الحفاظ على التعاون العسكري سيضمن التوازن الأمني في مواجهة أي محاولات لزعزعة الأوضاع الداخلية. ثانياً، روسيا تملك نفوذاً كبيراً على الساحة العالمية يمكن استخدامه لصالح سوريا في المحافل الدولية، سواء عبر تعطيل أي تحركات تهدف لعزل دمشق سياسياً أو عبر الدفع نحو تخفيف العقوبات الاقتصادية التي تعيق جهود إعادة الإعمار.
اقتصادياً، يمثل التعاون مع روسيا فرصة لتحقيق بعض الانفراج في الأوضاع الاقتصادية المزرية التي تعاني منها البلاد. موسكو قد تقدم تسهيلات في مجالات الطاقة والزراعة والصناعة، وهي مجالات حيوية ستساعد في إعادة تدوير عجلة الاقتصاد السوري. إلى جانب ذلك، يمكن لروسيا أن تلعب دوراً في جذب مستثمرين من دول أخرى، خاصة أن استقرار سوريا سيشكل عامل جذب أساسياً للاستثمار الدولي في المستقبل.
الحكومة الجديدة في دمشق مطالبة بإعادة تقييم سياساتها دون إحداث قطيعة مع حلفائها التقليديين. بناء علاقات طيبة ومتوازنة مع روسيا سيمكن القيادة الجديدة من كسب الوقت والموارد اللازمة لمعالجة الأزمات الداخلية، وخصوصاً التحديات المتعلقة بإعادة الإعمار وعودة النازحين وتحقيق الاستقرار الاجتماعي. موسكو تدرك أيضاً أهمية الحفاظ على علاقاتها مع الحكومة السورية الجديدة، كون سوريا تشكل ركناً استراتيجياً في منطقة الشرق الأوسط، فضلاً عن أن أي انسحاب أو تقليص لنفوذها هناك سيتيح المجال لقوى أخرى، إقليمية ودولية، للتمدد وملء الفراغ.
بناءً على هذه المعطيات، يبدو أن العلاقة بين دمشق وموسكو ليست مجرد علاقة عابرة فرضتها الظروف السياسية السابقة، بل هي علاقة استراتيجية مبنية على مصالح مشتركة يجب تعزيزها. الاستفادة من خبرات روسيا ودعمها سيمكن الحكومة السورية الجديدة من تعزيز موقعها داخلياً وخارجياً، ويمنحها القدرة على المضي قدماً في بناء مستقبل جديد للبلاد بعيداً عن سيناريوهات الفوضى وعدم الاستقرار