من يتابع ما يحدث بين الاتحاد الأوروبي وإدارة ترامب هذه الأيام يكتشف الفجوة العميقة بين ضفتي الأطلسي، والتي كشف عنها نائب الرئيس الأمريكي جي. دي. فانس أمام مؤتمر الأمن العالمي الذي انعقد مؤخراً في ميونيخ بألمانيا بنسخته الـ61. فالخطاب كان كافياً ليفجر غضباً لا ينتهي في القارة الأوروبية برمتها، خاصة في ألمانيا الدولة المضيفة. فقد كان خطاباً حاداً وهجومياً أظهر الخلافات بين أمريكا وأوروبا حول التعريفات الجمركية والإنفاق العسكري لحلف شمال الأطلسي والاستحواذ على غرينلاند، عدا عن الاتهامات التي وجهها فانس إلى الاتحاد الأوروبي بشأن فرض قيود على الديمقراطية وحرية التعبير، وتأكيده أن إدارة ترامب تجري مفاوضات مع روسيا بشأن أوكرانيا دون الأوروبيين… وهنا… القشة التي قصمت ظهر البعير…..
تصريحات فانس التي كانت أشبه بفيلم يعرض أمام العالم أجمع أثارت غضباً أوروبياً عارماً ومستمراً لم ينته بانتهاء المؤتمر، ما استدعى عقد اجتماع عاجل في باريس لقادة الدول الأوروبية غداة انتهاء مؤتمر ميونيخ لتشكيل جبهة موحدة، إلا أن الاجتماع شهد انقسامات داخل دول الاتحاد.
وفي مقابل تظهير الخلافات والانقسامات بين الولايات المتحدة وأوروبا في المؤتمر – الذي حضره حوالي 60 من رؤساء الدول والحكومات و150 وزيراً والمئات من صناع القرار السياسي والأمني في العالم – حرص الجانب الأمريكي على تسريع خطوات التقارب والتطبيع والحوار مع موسكو، وتم الإعلان عن انعقاد القمة الروسية الأمريكية في الرياض بالمملكة العربية السعودية دون دعوة ممثلين عن الاتحاد الأوروبي، ما زاد الغضب في العواصم الأوروبية. عدا عن التسريبات عن احتمال حضور الرئيس ترامب إلى موسكو للمشاركة في احتفالات عيد النصر، ما شكل ضغطاً حقيقياً على القارة الأوروبية بأسرها. وقد نزلت هذه الأخبار بعد الاتصال الهاتفي بين ترامب وبوتين وبدء الاجتماعات التحضيرية للقاء الرئيسين، نزلت كالصاعقة على رؤوس القادة الأوروبيين الذين أصدروا بياناً خاصاً قبل صدور البيان الختامي لمؤتمر ميونيخ للأمن، دعوا فيه إلى وحدة بلدانهم للدفاع عن أوروبا. كما تداعى القادة الأوروبيون لعقد اجتماع في باريس غداة اختتام مؤتمر ميونيخ للأمن، وأكدوا بعد ثلاث ساعات من المناقشات رفضهم رفع العقوبات عن روسيا إذا فعلت أمريكا ذلك، في إشارة إلى امتعاض القارة العجوز من خطوات ترامب لإيقاف الحرب في أوكرانيا وتطبيع العلاقات مع موسكو بعد سنوات من العداء الشديد، قاد خلالها الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن أوروبا معه إلى أتون الحرب، فخسرت أوروبا مع أوكرانيا الحرب كما خسرت المال والدور والموقع، وكانت تابعاً ينفذ الأوامر ويدفع بدون حساب منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية التي تدخل عامها الرابع في الرابع والعشرين من شباط الجاري..
كان واضحاً أن إدارة ترامب أرادت أن تعلن مواقفها تجاه القضايا الإقليمية والدولية عبر منبر عالمي، فاختارت مؤتمر ميونيخ للأمن في ألمانيا. وجاءت كلمة نائب الرئيس الأمريكي خلال افتتاح المؤتمر لتظهر لأول مرة الانقسام الحاد بين طرفي الأطلسي، ولتعمق بشكل كبير ما يسمى ظاهرة “الروسوفوبيا”، حيث تشعر أوروبا بالقلق والخوف الدائمين من روسيا وتسعى لإضعافها. ورغم أن روسيا لم تشارك في مؤتمر ميونيخ هذا العام، إلا أنها كانت الحاضر الأكبر فيه بسبب الحرب في أوكرانيا والتي هيمنت على أعمال المؤتمر بأيامه الثلاثة، والتي أعلنت واشنطن مراراً أنها تريد إيقافها وتريد أن تعيد رسم خارطة علاقاتها مع موسكو. وهذا الموقف الأمريكي أغضب أوروبا بأسرها وجعلها تنتحب وتتألم وتصرخ وتدعو إلى التكاتف والوحدة للدفاع عن أوروبا العجوز. مع أن الرئيس الأمريكي ونائبه أكدا أنه لا خطر على أوروبا من روسيا، وهذا أيضاً زاد الرعب والخوف الأوروبي، خاصة في دول ألمانيا وبولندا وبريطانيا على وجه التحديد، وهي الدول التي لا تزال تراهن على هزيمة روسيا، مع أن الرئيس ترامب قطع خطوات حقيقية باتجاه إنهاء الحرب التي يعتبرها عبثية ويؤكد استحالة هزيمة روسيا التي هزمت هتلر ونابليون سابقاً، وهو الأمر الذي تشاهده أوروبا بأم عينيها ولكنها لا تريد أن تصدقه لأمر في نفسها… ولربما لأن قادتها يشعرون بالخطر الداهم جراء صعود اليمين في بلدانهم…
رئيس مؤتمر ميونيخ كريستوف هويسغن لم يتمالك نفسه وراح يبكي كالأطفال الصغار أمام المشاركين في المؤتمر بسبب المواقف الأمريكية المتعارضة مئة بالمئة مع الطروحات والمقترحات الأوروبية، خاصة وأن أوروبا تشعر بالخذلان لأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رفض إشراكها في أية مفاوضات لإنهاء الحرب في أوكرانيا، واختار المملكة العربية السعودية لتكون وسيطاً ومكاناً بعيداً عن أوروبا التي كانت دائماً تستضيف القمم الروسية الأمريكية حتى خلال الحرب الباردة. خاصة أن قمة الرياض بالمملكة العربية السعودية وبحضور سمو الأمير محمد بن سلمان ولي العهد ستكون بمثابة “يالطا جديدة” سيتم من خلالها رسم خارطة جديدة للعالم في ضوء التطورات في الشرق الأوسط وأوكرانيا، وذلك بعد إقامة نظام عالمي متعدد الأقطاب طالما دعت إليه روسيا. وهذا الأمر تعتبره أوروبا بمثابة صفعة لها، ذلك لأن مشاركة السعودية واستبعاد أوروبا يعد صفعة أمريكية قوية للاتحاد الأوروبي الذي ذهب بعيداً في عدائه لروسيا خلال السنوات الثلاثة الماضية عبر تقديم السلاح والأموال والدعم المادي والبشري لزيلينسكي، وإعلانه خلال مؤتمر ميونيخ أنه لن يرفع العقوبات المفروضة على روسيا إذا فعلت الولايات المتحدة ذلك.
الحضور الكبير في مؤتمر ميونيخ للأمن والإجراءات الأمنية المشددة، وخصوصاً قرب فندق بيار هوف التاريخي الذي يحتضن المؤتمر، لم يمنع وقوع حادثة خطيرة عندما قام إرهابي من أفغانستان بعملية دهس مجموعة من المتظاهرين بالقرب من انعقاد المؤتمر، ما أدى إلى إصابة 30 شخصاً بجروح. إلا أن هذا الحادث الأمني في ألمانيا رغم خطورته وتوقيته لم يحظ بالاهتمام الكافي بالنظر إلى الخطورة التي تشعر بها أوروبا جراء التقارب الروسي الأمريكي. فإذا بها تستغيث وتلطم خدها وتدق جرس الإنذار جراء استفراد إدارة الرئيس ترامب بالمحادثات مع روسيا، وهذا سينعكس سلباً على العلاقات التجارية بين ضفتي الأطلسي وسيضعف حلف الناتو، وربما تصبح فكرة إنشاء جيش أوروبي موحد وبناء هيكلية جديدة للأمن الأوروبي في محاولة يائسة لأخذ زمام المبادرة وتوفير ضمانات أمنية لأوكرانيا المهزومة.