بعد جلسة مجلس الأمن واقتراب إعلان الحكومة الانتقالية، لا تزال الخلافات عميقة بين مكونات الساحة السورية حول الحوار والإعلان الدستوري ووجود العناصر الأجنبية في الجيش.
أربعة قضايا رئيسية تشغل الشارع السوري المنقسم على نفسه، مع تزايد المخاوف واتساع حالة القلق بين السوريين في مختلف المناطق جراء التداعيات السياسية والأمنية لأحداث الساحل السوري.
فالحكومة الانتقالية التي تم الإعلان عن تشكيلها لتحل محل الحكومة المؤقتة بعد إلغاء منصب رئيس الوزراء وفق الإعلان الدستوري، تعد في نظر العديد من القوى السياسية التي برزت على الساحة السورية بعد الثامن من كانون الأول الماضي مرفوضة حتى قبل أن ترى النور. كما أعلنت القيادية في قوات سورية الديمقراطية إلهام أحمد، في محاولة لتجاهل الاتفاق الذي تم التوقيع عليه بين الرئيس الشرع ومظلوم عبدي، والذي يقضي بدمج قوات سورية الديمقراطية (قسد) بقوات وزارة الدفاع السورية.
وجهت العديد من القوى سهامها ضد الحكومة الوليدة فور التسريبات عن اقتراب إعلانها، وأكدت هذه التسريبات أن وزراء الدفاع مرهف أبو قصرة والخارجية أسعد الشيباني والداخلية علي كدة سيحتفظون بمناصبهم، ما يشير إلى رغبة الحكومة المؤقتة التي شكلها الشرع بعد سقوط نظام بشار الأسد بالاحتفاظ بالمناصب السيادية الثلاثة في الدولة. وربما كان ذلك سببا رئيسيا لإحجام القوى الرئيسية في الساحل والشمال والجنوب، وحتى من قبل القوى السورية المتحالفة مع حكومة الشرع، عن المشاركة في الحكومة.
وسط اتساع الهوة والانقسامات في الشارع السوري، وتزايد العوامل والتدخلات الأجنبية، وبخاصة العامل الإسرائيلي، شهدت الساحة السورية خلال الأيام الماضية تجاذبات حادة بين إسرائيل وتركيا، وكان ذلك جليا في مجلس الأمن حيث شن المندوب التركي هجوما حادا على حكومة الاحتلال خلال جلسة مجلس الأمن المفتوحة حول سورية.
في الوقت نفسه، تكثف إسرائيل اعتداءاتها على الأراضي السورية والمواقع العسكرية المستحدثة، وتمارس ضغوطا كبيرة على الحكومة لمنعها من اتخاذ أي إجراءات من شأنها أن تريح الشارع السوري وتدفعه إلى الأمام، وتزيد الهوة بين السوريين في مناطق القنيطرة ودرعا والسويداء امتدادا إلى مناطق الجزيرة السورية والبادية، من خلال الاعتداءات المتكررة والتدخلات الفظة والمرفوضة بحجة دعم الأكراد في الجزيرة والدروز في السويداء.
ومع اتساع التدخلات الخارجية المتزايدة مع مرور الوقت، والخلافات التي تعصف بالشارع السوري والقوى السياسية والمجتمعية بشأن شكل الدولة وهويتها ونظامها، جاء الإعلان الدستوري الذي تم اعتماده وتوقيعه من قبل السيد الرئيس ليصب الزيت على النار ويزيد الطين بلة. فقد لاقى هذا الإعلان، رغم تأكيد لجنة الصياغة بأنه مؤقت وسيتم الاستفتاء عليه، انتقادات شديدة بكونه يمثل لونا واحدا ولا يعبر عن تطلعات الشعب السوري.
فالأكراد في الشرق والشمال رفضوا الإعلان الدستوري، كما رفضته القوى في الجنوب في درعا والسويداء. وأصدر شيخ الموحدين الدروز الشيخ حكمت الهجري بيانا أعلن فيه رفضه أيضا للإعلان الدستوري. كما أعلن الهجري قبل ذلك رفضه لمخرجات مؤتمر الحوار الوطني الذي انعقد في قصر الشعب بدعوى عدم تمثيل جميع مكونات الشعب السوري في المؤتمر واقتصار المشاركين فيه على لون واحد.
ولم يختلف موقف الشيخ الهجري عن مواقف قوات سورية الديمقراطية، حيث ينسق الطرفان بشكل وثيق من أجل التوصل إلى صيغة جديدة تكفل مشاركة كل مكونات الشعب السوري في الحكومة الجديدة وفي تحديد هوية الدولة والحفاظ على سيادتها ووحدتها.
ومع اتساع الهوة بين مختلف الأطراف في سورية حول مؤتمر الحوار وقراراته، وحول الإعلان الدستوري والمطالبة بإبعاد العناصر الأجنبية في الجيش والقوى الأمنية، تمضي الحكومة في قراراتها واتصالاتها الخارجية المكثفة لحلحلة هذه الأمور دون أن تثير اللغط والسجالات مع القوى السياسية الأخرى المناهضة لها والمتحالفة معها أيضا، والتي عبرت عن انزعاجها بعد أحداث الساحل التي ألمت بالشعب السوري عموما.
في وقت تنشغل الحكومة بعد هذه الأحداث بشكل أساسي بمعالجة الملف الأمني، لا يزال أبناء المنطقة تحت وقع الصدمة واتساع حالة الفقر والجوع والقلق، محجمين عن الانخراط بمناقشة الوضع السياسي. وما يعنيهم هو المحافظة على أمنهم الشخصي وتخفيف حالة الاحتقان والقلق والخوف، وتقتصر مطالبهم على ضرورة إبعاد العناصر الأجنبية عن الجيش والقوى الأمنية، وهو مطلب دولي وأممي أيضا.
وقد دعا مجلس الأمن إلى ذلك، كما رفض المجلس الإعلان الدستوري خلال جلسته، وأعلن المبعوث الأممي إلى سورية غير بيدرسون ضرورة تطبيق القرار 2254 الذي يدعو إلى المحافظة على سيادة سورية ووحدتها وأمنها، ودعا إلى مشاركة الجميع. وربما كانت أحداث الساحل وراء تأخير إعلان الحكومة الانتقالية، والتي ستعمل وفق منهجية وطنية وتصميم وإرادة لوقف التجاوزات وتصحيح الأخطاء التي وقعت خلال الأشهر الماضية.
قرر مجلس الأمن الدولي إبقاء اجتماعاته مفتوحة لمتابعة الأوضاع في سورية، وعقد المجلس حتى الآن اجتماعين بطلب من روسيا والولايات المتحدة بعد أحداث الساحل السوري، تابع خلالها نتائج التحقيقات التي يجريها فريقان أحدهما تابع للأمم المتحدة والآخر سوري. حيث اطلع المجلس على الانتهاكات بحق المدنيين في الساحل السوري بعد الهجمات المنسقة التي تعرضت لها قوى الأمن والجيش على أيدي فلول النظام السابق بعد شهرين من الهدوء والاستقرار، وذلك جراء الدعوات الطائفية التي دعا إليها بعض الموتورين، ما أدى إلى خروج الوضع عن السيطرة ودخول المنطقة حالة من الفوضى الأمنية، ودخول مجموعات مسلحة غير منضبطة ومتفلتة إلى القرى والبلدات الآمنة، فعاثت بها قتلا ونهبا وفسادا.
تم بعدها تشكيل لجنة تقصي الحقائق لمعاقبة المتورطين في تلك الأحداث. وقد أعلن المتحدث باسم لجنة تقصي الحقائق في أحداث الساحل السوري ياسر الفرحان أن اللجنة تواصل تحقيقاتها وستزور بعد الانتهاء من اللاذقية طرطوس وجبلة وإدلب. وأشار إلى أن اللجنة التي شكلها الرئيس الشرع بعد أيام من الحوادث المروعة التي سقط خلالها مئات الضحايا تلقت أكثر من 30 بلاغا حول الأحداث، وعاينت 9 مواقع، واستمعت لشهادات جهات أمنية وعسكرية ومدنية في اللاذقية، ودونت 95 إفادة حول الأحداث.
ومع أن قرار تشكيل اللجنة كان له صدى إيجابي في الشارع السوري، مع تراجع أعمال العنف والانتقامات وتحسن الأوضاع الأمنية في الساحل، وتزايد الثقة بالقوى الأمنية وقدرتها على ضبط الأمن، وذلك بعد قرابة أربعة أشهر من سقوط نظام بشار الأسد، إلا أن الانقسامات السياسية وحالة الغموض والتململ والقلق في الشارع السوري لا تزال قائمة، مع استمرار حالة الضياع التي يعيشها الشباب السوري الذي يبحث عن الأمن والاستقرار داخل البلاد وخارجها.
في وقت لا تزال حالة الغموض تسود المشهد السياسي بعد أن رفضت القوى السياسية والمكونات المجتمعية السورية الإجراءات والقرارات التي اتخذتها الحكومة المؤقتة ذات اللون الواحد، بانتظار ما ستقوم الحكومة الجديدة بإصلاحه. فالحكومة المؤقتة، رغم كل نجاحاتها الخارجية والاتصالات التي أجراها الرئيس الشرع ووزير الخارجية الشيباني، إلا أن هذه النجاحات والاتصالات مع روسيا وأوروبا والدول العربية والصين لم تسعفها في خلق أجواء ومناخات تكفل دفع الحل السياسي في الداخل وفق القرار الأممي 2254 إلى الأمام، لتبقى الأوضاع تراوح مكانها بانتظار نتائج المشاورات الدولية والإقليمية المكثفة، وبخاصة اجتماع الرئيسين الأمريكي والروسي المرتقب في السعودية.
وهو اجتماع مخصص للوضع في أوكرانيا، إلا أن الكثير من المحللين يؤكدون أن الوضع في سورية سيكون حاضرا في اللقاء التاريخي بين ترامب وبوتين في الرياض، ربما بعد أسابيع أو أشهر.
وستبقى أحداث الساحل تخيم بظلالها على المشهد السياسي لحين صدور نتائج التحقيقات ومحاسبة المتوركين، رغم كل التطمينات والقرارات التي اتخذتها الحكومة لامتصاص الصدمة العنيفة التي عاشها الشارع السوري بعد أحداث اللاذقية وطرطوس وجبلة في السادس من آذار الماضي.