لم تعد عزيمة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإنهاء الحرب في أوكرانيا كما كانت عليه عندما دخل البيت الأبيض قبل أربعة أشهر، عندما كان يراهن على إنهاء الحرب خلال أربع وعشرين ساعة. فها هي المواعيد التي حددها الرئيس ترامب تنقضي، والشهور تمر، والحرب لا تزال مستعرة، والجيش الروسي يبدو اليوم أكثر استعدادا مما كان عليه قبل أشهر، فيما يتراجع الجيش الأوكراني ويرفض ضباطه وجنوده تنفيذ الأوامر ومواصلة القتال في كورسك الروسية…
لا يوجد أسرار ولا غموض بشأن تفسير انخفاض زخم الاندفاعة والتوقعات الأمريكية بشأن إنهاء الحرب في أوكرانيا. فالدول الأوروبية متورطة حتى النخاع في هذه الحرب، وتعتبر انتصار روسيا هزيمة لها وليس هزيمة لأوكرانيا فحسب. ولم تترك أوروبا وسيلة لدعم أوكرانيا ومواجهة الضغوط الأمريكية عليها، فقدمت الدعم العسكري والمادي بسخاء لزيلينسكي، ورفضت الاقتراحات الأمريكية بشأن الاعتراف بسيادة روسيا على القرم، وعقدت عشرات الاجتماعات لدعم زيلينسكي الذي استغل الدعم الأوروبي ووضع المزيد من الشروط، وأبدى المزيد من التعنت بعد المواجهة الشهيرة مع ترامب في البيت الأبيض…
الدبلوماسية الأمريكية التي خصت الأزمة في أوكرانيا بمساحة كبيرة منذ دخول ترامب البيت الأبيض، عاودت أمام التعنت الأوكراني والأوروبي ترتيب سلم أولوياتها، وبات الاهتمام بالأوضاع الداخلية والوضع في الشرق الأوسط والملف النووي الإيراني وتداعيات فرض ترامب للرسوم الجمركية على دول العالم يأخذ وقت الإدارة على حساب أوكرانيا، باعتبارها الملف الأكثر خطورة أمام ترامب. حتى وصل الأمر بعد رفض زيلينسكي وأوروبا المقترحات الأمريكية الأخيرة إلى التهديد بالانسحاب من المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا في حال رفض موسكو وكييف هذه المقترحات، التي تتركز حول الاعتراف من قبل الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا بسيادة روسيا على القرم، وتبادل الأراضي، ورفع العقوبات عنها، وإعطاء ضمانات أمنية قوية لأوكرانيا، وتشكيل لجنة ثلاثية روسية أوكرانية مع دولة ثالثة غير عضو في الناتو، مع عدم استبعاد نشر قوات أوروبية على الأراضي التي تسيطر عليها كييف. الأمر الذي ترفضه موسكو بشكل حاسم، حيث أعرب نائب الرئيس الأمريكي جي. دي. فانس عن أمله خلال زيارته تاج محل في الهند في التوصل إلى اتفاق بشأن تسوية الأزمة الأوكرانية خلال الأسبوع المقبل. وهدد فانس في ذات الوقت بوقف الوساطة الأمريكية في حال استمر تجاهل المقترحات الأمريكية…
موقف ردده وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو في باريس بقوله للصحفيين: “إن ترامب سيعيد النظر في محاولات حل الأزمة الأوكرانية إذا لم يتم إحراز تقدم في المستقبل القريب”…
في خضم هذه الأجواء الضبابية، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأول مرة استعداده للتفاوض المباشر مع نظام كييف، وذلك في محاولة لإظهار حسن النوايا الروسية في التعاطي مع الخطة الأمريكية، وتيسير الوساطة المعقدة التي تقوم بها إدارة ترامب منذ أشهر…
أجواء التفاؤل التي سادت خلال الأشهر الماضية حول اقتراب إنهاء النزاع في أوكرانيا كانت روسيا وقيادتها دائما جزءا منها، ولكن موسكو كانت دائما تراهن على الجيش الروسي وتصر على تحقيق أهداف الحرب، وعدم السماح لزيلينسكي بتحقيق أي مكاسب بعد سنوات من القتال ومئات الآلاف من الضحايا. ولم تتوان روسيا عن تقديم كل الاقتراحات والمبادرات التي تنهي الصراع الذي يهدد في حال استمراره باندلاع حرب نووية عالمية…
وللإنصاف، تتحمل أوروبا المسؤولية الكاملة عن تأخير وقف الحرب في أوكرانيا، فالمواقف الفرنسية والبريطانية والألمانية على وجه الخصوص حالت دون التوصل إلى اتفاق، خاصة بعد أن فتح ترامب معركة الرسوم الجمركية، وكان لافتا استثناء روسيا منها. فإذا بالاتحاد الأوروبي يتحول إلى وحش حقيقي في مواجهة الروس وفي معارضته لوقف الحرب، زاعما أنه يسعى إلى السلام. غير أن هذا الاتحاد يقول لنفسه بعد التجاهل الأمريكي للموقف الأوروبي اتجاه أوكرانيا: “أنا ومن بعدي الطوفان”… فالأوروبيون لا يتصورون كيف سيكون حال القارة العجوز إذا ما أثمر التحالف الروسي الأمريكي عن اتفاق ينهي الحرب في أوكرانيا.
لم تترك كييف وسيلة لإفشال المفاوضات وإجهاض الاندفاعة الأمريكية إلا واستخدمتها، عبر خرق اتفاقات وقف إطلاق النار خلال عطلة الفصح، والتشكيك بالنوايا الأمريكية الصادقة لإنهاء الحرب، والمراوغة في موضوع اتفاق المعادن الثمينة مع واشنطن، بالإضافة إلى استغلال الخلافات المتصاعدة بين الرؤيتين الأمريكية والأوروبية حول الوضع في أوكرانيا والنظرة إلى العالم الجديد الذي يتكون بعد انتهاء عصر العولمة في أمريكا واستبداله بعصر “أمريكا أولا”. وهذا الأمر لم يعد يخفى على أحد. أضف إلى ذلك العوامل الذاتية وعلاقات الصداقة بين الرئيسين ترامب وبوتين، والتي لا تزال تخيم بظلالها على أوروبا كلها، خاصة وأن ترامب أحاط نفسه بفريق يشبهه، كوزير الخارجية ماركو روبيو ومبعوثه الخاص ستيف ويتكوف، اللذين ينظر إليهما كحلفاء لروسيا وأصدقاء للرئيس بوتين. الأمر الذي جعل المفاوضات المتعددة بشأن أوكرانيا تتعثر رغم الجهود الأمريكية الهائلة لتخفيف التوتر ووقف القتال على الجبهات. ويبدو أن الآمال التي عقدت على اجتماعات لندن في الثالث والعشرين من نيسان في العاصمة البريطانية لندن تبخرت جراء التعنت الأوروبي ورفض الاتحاد الأوروبي للخطة الأمريكية. وهذا يضع الجميع أمام خيارات صعبة، ويضع إدارة ترامب في موقف حرج بعد أن نجحت أوكرانيا في امتصاص الضغوط الأمريكية وحافظت على الدعم الأوروبي غير المحدود. فيما لا يزال الروس كما كانوا في اليوم الأول للحرب يؤكدون أنهم لن يقبلوا إلا بالنصر الكامل وتحقيق كامل أهداف العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، وهم باتوا أقرب إلى تحقيق هذا الهدف سلمًا أم حربًا…