استقرار مؤقت في ليبيا ، مبني على فوهة بركان ، ينتظر أي مشهد عابر ليثور من جديد ، ولكن لم يكن مشهداً عابراً فحسب ، بل قتل قائد إحدى الجماعات المسلحة في غرب ليبيا رئيس «إدارة دعم الاستقرار» الموالية لـ«المجلس الرئاسي»، عبد الغني الكيكي وعشرة من مرافقته،
إثر اشتباكات فصائلية جنوب العاصمة الليبية طرابلس.
بعد هذا الحدث الخطير و اشتباكات استمرت لأكثر من 48 ساعة ، أصدر رئيس حكومة الوحدة ” عبد الحميد الدبيبة ” لاحتواء التصعيد أمراً بحل ما أطلق عليه ” قوات مسلحة غير نظامية ” في طرابلس ومحيطها، خطوة لم تكن كافية ، فالاشتباكات تجددت في اليوم نفسه بين عناصر جماعتي “قوات الردع”، وما يعرف بـ”اللواء 444″(المؤيّد للدبيبة)، والتي قتل خلالها مواطن واحد على الأقل، بحسب “الهلال الأحمر
الليبي”.
تصف ليبيا خلال تصريحاتها الرسمية أن الأمور ما زالت تحت سيطرة نسبية، أما بالنسبة للشعب الليبي فهو رافض بغضب لأي محاولات
تصعيد مسلح وسياسي بالمطلق ، حيث خرجت مظاهرات حاشدة في طرابلس ومدن أخرى تطالب بتحسين الأوضاع المعيشية و إيقاف استنزاف مقدرات البلاد الذي سببه الأول والأخير النزاع المسلح والصراع على السلطة ، محملين الحكومة التنفيذية في المنطقة الغربية “الدبيبة” المسؤولية الكاملة عن الإخفاق في تلبية الحد الأدنى من تطلعات المواطنين في ظل الأزمات الاقتصادية والخدمية المتفاقمة.
في حين أصدر نواب المنطقة الغربية بياناً طالبوا فيه بالإفراج الفوري عن جميع المعتقلين على خلفية مشاركتهم في التظاهرات، مؤكدين على ضرورة البدء الفوري في عملية سياسية شاملة تضع البلاد على مسار انتخابات حقيقية نزيهة تنهي المراحل الانتقالية المتكررة، وتنقل السلطة إلى مؤسسات شرعية وفق جدول زمني واضح.
التطورات الأخيرة لا تشير فقط إلى مواجهات عسكرية عشوائية، بقدر ما تضع ليبيا أمام خطر تجدد الصراع السياسي أيضاً وانقسام المقسّم بعد 4 سنوات من هدوء نسبي ملحوظ ، خاصة بعد إعلان المجلس الرئاسي تجميد جميع قرارات الدبيبة بخصوص حل الفصائل المسلحة غيرالنظامية.
وفي سياق الانقسام السياسي المتواصل وتعثر محاولات إجراء انتخابات رئاسية ، تعكس الاشتباكات العنيفة تحولاً جذرياً في موازين القوى داخل العاصمة، وتهدد بإعادة رسم خارطة النفوذ في المشهد الليبي المعقد، مبادرة الدبيبة
حاول تصديرها على أنها محاولة احتواء التصعيد ، لكن لمح محللون ليبيون أن الدبيبة أكثر الأطراف المستفيدة من مقتل الكيكي باعتبار الأخير كان يشكل حجر عقبة أمام هيمنة الأول على مجمل المشهد الأمني غرب ليبيا ، وأن شرارة الاشتباكات ونتائجها تضع البلاد أمام انطلاق فوضى جديدة، ورؤوا أن استجابة الدبيبة – والتي تبدو قوية ظاهراً – تؤشّر إلى انتهاز الفرصة لفرض سيطرة وزارة الدفاع والجيش على ملف الأمن في طرابلس ومحيطها، للمرّة الأولى منذ عام 2011، وذلك استكمالاً لجهود حثيثة لدمج عناصر الفصائل داخل أُطر الجيش، كما أشارت وسائل إعلام ليبية بدورها، إلى دور (غير مؤكد) للإمارات؛إذ جاء اغتيال الكيكلي في سياق احتواء «محاولة انقلابية تستهدف العاصمة» بدعم من أبو
ظبي، بحسب هذه الوسائل. أمّا مجلس النواب (المؤيد لحفتر)، فقد أكد، في بيان (14 مايو)،أن مقتل الكيكلي و10 من حراسه داخل مقر «اللواء 444»، يقع في إطار مسؤولية «حكومة الوحدة
الوطنية» برئاسة الدبيبة، معتبراً أن الأخيرة تسعى إلى الهروب من مسؤوليات إنهاء جمود العملية السياسية، والانقسام المؤسساتي بتشكيل حكومة موحدة تدير شؤون البلاد الداخلية والخارجية، إذ تأتي خطوته في سياق جهوده لدرء التهديدات التي طالت استمراره «شخصيّاً» في السلطة في الأعوام الأخيرة، ثم إنه يمكن النظر إلى خطواته، ومآلاتها، على أنها أداة لتحقيق مآرب في السلطة حتى في حال التوصّل إلى مواعيد واستحقاقات انتخابية ليبية في العام الحالي.
وفي الوقت الذي يستخدم فيه الدبيبة ورقة
الوجود الروسي كأداة للتعامل مع الولايات المتحدة مستفيداً من نفوذها في الأزمة الليبية ، فإنه يتصرف بازدواجية معايير غريبة ويتجاهل كلياً الوجود التركي في ليبيا والمرتزقة الداعمين لحكومته في طرابلس .
في ضوء التطورات الراهنة، تبرز ثلاثة سيناريوهات محتملة قد تطرأ على الملف الليبي ، إما أن تؤدي الأحداث الأخيرة إلى تعزيز سلطة حكومة الدبيبة لينفرد بالسيطرة على العاصمة بعد إزاحة منافس قوي له خاصة بعد استيلاء الفصائل المتحالفة معه على مناطق نفوذ جهاز دعم الاستقرار وإعلان وزارة الدفاع
(التابعة للدبيبة) وقف إطلاق النار ونشر قوات “محايدة”،وتراجع نفوذ المجلس الرئاسي بعد فقدان ذراعه العسكرية الرئيسية، أو سيؤدي هذا
الحدث إلى انفجار أمني أوسع قد يؤدي استمرار القتال لفترة طويلة وبالتالي استغلال الفراغ من قبل فصائل موجودة خارج العاصمة، مما يهدد بتصعيد أوسع نطاقاً يدفع إلى استمرار الانقسام السياسي والمؤسساتي الذي يغذي المواجهات المسلحة ، أو قد تنشأ توازنات أمنية جديدة في العاصمة بين القوى المتبقية من خلال تدخل
الأطراف المحلية والدولية درءاً لانهيار كامل للوضع الأمني ، وفي ظل هذه السيناريوهات المتوقعة يبقى المدنيون الليبيون الضحية الأكبر لصراع لم يعد يقتصر على التنافس السياسي، بل تحول إلى معركة نفوذ اقتصادي وأمني تتشابك فيها المصالح المحلية مع الأجندات الإقليمية والدولية.