بخطوات هادئة وواثقة، تمضي روسيا ومعها دول بريكس نحو تأسيس نظام اقتصادي عالمي يقوم على التعاون العادل والتنمية المتوازنة، بعيدًا عن سياسات الاحتكار والضغوط، حيث جاء منتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي الدولي «ПМЭФ» هذا العام ليعكس روحًا جديدة في العلاقات الدولية، مبنية على احترام سيادة الدول وتعزيز قدراتها الذاتية.
لأول مرة يظهر هذا التماسك الواضح بين دول الجنوب على طاولة واحدة، حيث حضرت الصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا ومعها الدول الشريكة من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، مؤكدين أن زمن الهيمنة قد ولى، وأن الطريق مفتوح أمام بناء تكتلات اقتصادية تحمي مصالح شعوبها وتضمن العدالة في تبادل السلع والتكنولوجيا والطاقة والاستثمارات.
تأتي قمة بريكس لتؤكد هذا الاتجاه، حيث أُعلن عن خطوات عملية لاعتماد العملات المحلية في التبادل التجاري، وتقليل الاعتماد على الأنظمة البنكية التقليدية التي تعرقل التنمية في دول الجنوب، مع إطلاق مبادرات استثمارية ضخمة في مجالات الطاقة النظيفة، وتكنولوجيا المعلومات، والبنية التحتية، والنقل، والرقمنة، بما يخدم تحسين حياة ملايين البشر في آسيا وإفريقيا.
وقد تعهدت روسيا خلال المنتدى بمواصلة تقديم الدعم للدول النامية في مجالات الأمن الغذائي، ونقل التكنولوجيا الزراعية، وتطوير شبكات الطاقة بأسعار عادلة، فيما شهدت جلسات المنتدى اتفاقيات جديدة بين الشركات الروسية ونظيراتها في إفريقيا وآسيا، لفتح أسواق متبادلة وتشغيل المصانع المحلية وتوفير فرص العمل للشباب.
هذا الحراك الاقتصادي لا يستهدف الصدام مع أحد، بل يقدم نموذجًا للتكامل الحقيقي بين دول الجنوب، إذ يتم العمل على تعزيز خطوط النقل البحري والبري والسكك الحديدية بين آسيا وإفريقيا عبر مبادرة «الحزام الاقتصادي لبريكس»، بالتوازي مع إطلاق صناديق استثمارية لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة في الدول الشريكة.
إن روح التعاون التي سادت المنتدى، واللقاءات الثنائية والثلاثية بين قادة دول بريكس والدول المدعوة، أظهرت أن هناك وعيًا جديدًا بأن التنمية الشاملة لن تتحقق إلا من خلال التكامل الاقتصادي العادل، بعيدًا عن الإملاءات، وأن مصالح الشعوب هي التي يجب أن تحدد السياسات الاقتصادية.
في سانت بطرسبورغ هذا الأسبوع، لم يكن الاقتصاد مجرد أرقام وتقارير، بل كان الأمل حاضرًا في عيون الشباب المشاركين في جلسات المنتدى، وفي كلمات الخبراء الذين أكدوا أن العالم يتغير بالفعل، وأن الأبواب تُفتح أمام بناء اقتصاد عالمي إنساني، يحقق التوازن والاستقرار، ويمنح لدول الجنوب موقعها المستحق في صياغة مستقبل أكثر عدالة.
وهكذا، وبينما تغادر الوفود مدينة سانت بطرسبورغ، يبقى الأمل بأن تكون هذه الخطوات الجريئة بداية حقيقية لعهد جديد من التنمية المستقلة والشراكات المتوازنة، ليصبح التعاون جنوب-جنوب مسارًا أساسيًا لتحقيق الرفاه لشعوبنا، وحماية سيادة قرارنا الاقتصادي، وبناء عالم يليق بأحلام الأجيال القادمة