في خضم التحولات المتسارعة في المنطقة بعد حرب الـ12 يوماً بين إسرائيل وإيران واقتراب وقف الحرب على غزة، أعلنت واشنطن عزمها القيام بحملة عسكرية واسعة مشتركة بين القوات الأمريكية وقوات سورية الديمقراطية في البادية السورية للقضاء على تنظيم داعش الذي يواصل نشاطه ويسعى لتجنيد وضم عناصر جديدة إلى صفوفه. كما يقوم التنظيم بحملة تخويف للفصائل الأجنبية من أن الحكومة السورية تسعى للتخلص من هذه الفصائل، خاصة في ضوء رفض الدول الأوروبية والعربية إعادة مقاتلي داعش إلى بلدانهم الأصلية، والكثيرين منهم لا يزالون في السجون.
وجاء في الإعلان الأمريكي بشأن العملية على لسان الجنرال الأمريكي كيلفن سي ليهي قائد التحالف الدولي: “إن خطر داعش يتفاقم ولا نستبعد هجوماً مفاجئاً واسعاً داخل مراكز المدن في سورية، ونعمل مع قوات سورية الديمقراطية لإطلاق حملة واسعة في الصحراء السورية”. ويشير إلى أنه خلال تقييم القيادة المركزية سيتم تحديد موعد انطلاق العملية العسكرية التي ستشمل امتداد البادية السورية من ثلاثة محاور.
ومع عدم اشتراك الحكومة السورية في العملية رغم توقيع اتفاق انضمام قوات سورية الديمقراطية إلى الجيش السوري، فإنه يبدو جلياً أن الهدف الأساسي للعملية هو توسيع نفوذ كيان الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة وتحقيق حلم إسرائيل بالسيطرة على أجزاء واسعة من سورية عبر القوات الأمريكية في قاعدة التنف وقوات سورية الديمقراطية في شمال شرق سورية. مع أن الحملة تخدم الحكومة السورية التي تتعرض لضغوط كبيرة حيث تعمل داعش على استغلال الفصائل الأجنبية داخل الجيش وتقوم بتخويف هذه الفصائل من أن الاتفاق بين سورية وأمريكا خلال القمة السورية الأمريكية بين الرئيسين الشرع وترامب يقضي بضرورة التخلص من هذه الفصائل، وهذا ما تستغله داعش وتدفع بهذه الفصائل ومقاتليها للانضمام إليها.
وعلى المقلب الآخر، فإن الحملة العسكرية المرتقبة تخدم الأهداف الكردية بالنظر إلى العداء المستحكم بين الأكراد وتركيا التي تريد استخدام كل الأوراق لمنع إقامة كيان كردي على حدودها، خاصة أن هذا الكيان الكردي يحظى بدعم أمريكي إسرائيلي. في وقت لا يزال أكثر من عشرة آلاف مقاتل من داعش داخل سجون قوات سورية الديمقراطية (قسد) موزعين على 12 سجناً في مناطق شمال شرق البلاد، أكبرها سجن الصناعة في حي غويران بالحسكة وسجن الرقة وسجن الشدادة. وتريد داعش تحرير هؤلاء للعودة للقتال. كما يوجد آلاف المحتجزين من أسر وعائلات داعش من الأطفال والنساء في المخيمات وبخاصة مخيم الهول الذي تسيطر عليه قسد (قوات سورية الديمقراطية)، ويحاول التنظيم استغلال الأطفال داخل المخيم ويعمل على تربيتهم وفق معتقدات داعش الإرهابية، حيث تذكر وكالات الأنباء التي تزور المخيمات أن الأطفال يرسمون في مخيم الهول القنابل والبنادق والسترات المتفجرة…
ومن الواضح أن مصالح جميع الأطراف تلتقي عند ضرورة القضاء على تنظيم داعش في سورية، خاصة وأن التنظيم يعتبر أن قتال حكومة الشرع التي تحظى بقبول ودعم غربي وعربي وخليجي وتركي واجب شرعي، وهناك إجماع داخل تنظيم داعش أن الدولة السورية هي هدف التنظيم الذي بدأ عمليات ضد حكومة الشرع.
ومع أن الهدف الرئيسي للحملة العسكرية الأمريكية الجديدة هو تأمين اتصال مباشر بين إسرائيل والأكراد في شمال شرق سورية عبر ما يسمى “ممر داوود” الذي يصل بين مناطق الجنوب ومناطق شمال شرق سورية عبر البادية السورية، حيث بات الدروز في الجنوب منذ سقوط نظام الأسد يطالبون بحكم ذاتي لا مركزي ويرفضون الانخراط في الجيش السوري الجديد. وهذا الواقع يعني باختصار أن الأكراد وقوات سورية الديمقراطية وقوات التحالف باتوا يسيطرون ليس على الجزيرة السورية فحسب بل على البادية السورية بأكملها بالاشتراك مع حركة رجال الكرامة الدرزية المدعومة من إسرائيل.. وعلى قطع أي اتصال مع إيران عبر ضبط الحدود مع العراق والأردن.
ويبدو أن المعركة التي تجهز لها القوات المركزية الأمريكية ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، خاصة وأن التنظيم الذي تم الإعلان أكثر من مرة عن القضاء عليه وسحق عناصره يتجدد ويتمدد باستمرار. ولكن هذه المرة الأوضاع مختلفة.. فالولايات المتحدة بعد اتفاقها مع الحكومة السورية ورفع العقوبات تتلاقى مع روسيا التي تحارب تنظيم داعش الإرهابي منذ سنوات طويلة، ويبدو أن إدارة ترامب تريد المحافظة على حكومة الشرع وتخشى عليها من هذا التنظيم الذي يناصب الحكومة العداء ويكفرها ويعتبرها مخالفة وعلمانية…..
ويحاول تنظيم داعش الإرهابي توسيع سيطرته داخل البادية السورية والقيام بعمليات ضد قوات سورية الديمقراطية وضد الحكومة السورية ويستهدف دور العبادة وذلك للقول إن حكومة دمشق غير قادرة على حماية الأقليات وبالتالي يزيد المشاكل والتحديات التي تواجهها حكومة الشرع، كما يقوض مصداقية الحكومة أمام الدول الغربية التي تطالب دائماً بحماية الأقليات….. وتأتي هذه الحملة العسكرية لتكون كما يعتقد مطلقوها آخر الحروب التي تخوضها واشنطن لعلها ترسخ في أذهان الرأي العام أموراً غير صحيحة ولا تعبر عن الواقع. فالعالم كله يعرف أن أمريكا استفادت من الإرهاب لإعادة سيطرتها على المنطقة، وكما فعلت في الحرب العالمية الثانية عندما قصفت هيروشيما وأنهت الحرب، وكما فعلت بعد 21 يوماً من الحرب بين الكيان الصهيوني وإيران وقامت بقصف منشآت فوردو النووية ودمرتها بقاذفات بي-2، كذلك فإن أمريكا تريد أن تخوض آخر معركة على الإرهاب في سورية لتقول للعالم إنها من يحارب الإرهاب ويقضي عليه. مع العلم أن الرئيس ترامب فضح خلال حملته الانتخابية المستور ولم يترك ستراً يغطي عورات السياسة الأمريكية الداعمة للإرهاب عندما أعلن عشرات المرات أن الحزب الديمقراطي وإدارة بايدن وقبلها إدارة أوباما هما من صنعا تنظيم داعش في سورية. هذا ما أقرت به أيضاً هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية في إدارة أوباما، وذلك بهدف مساعدتهم للقضاء على النظام السوري البائد، وهذا ما تحقق في الثامن من كانون الأول عام 2024 بعد 15 عاماً من الحرب.
ولا شك أنه بعد قمة الرياض والاتفاق بين الرئيس الشرع وترامب على تطبيع العلاقات بين دمشق وواشنطن، أصبح وجود داعش في سورية يتعارض مع المصالح الأمريكية التي يعمل ترامب لتحقيقها بدون العودة إلى نمط السياسات الأمريكية التقليدية، وإنما عبر استخدام أنماط جديدة من الترهيب والترغيب الفردية التي تعتمد على شخصية ترامب النرجسية القاسية والمادية والبعيدة عن طرائق عمل المؤسسات الأمريكية المعتادة..
ويبدو أن ترامب يسعى عبر علاقاته مع السعودية لتغيير الواقع بشكل جذري في المنطقة، وربما لا يزال يحلم بالحصول على جائزة نوبل للسلام عبر السعي لتوقيع اتفاق سلام بين سورية وإسرائيل وفق الوضع الراهن، لتقويض اتفاقية فض الاشتباك عام 1974. وهو ما يعمل لتحقيقه سياسياً عبر دعم حكومة الشرع وتشجيعها لتوقيع اتفاق سلام أو استكمال الاتفاقيات الإبراهيمية لتضم سورية والسعودية. هذا على الصعيد السياسي بعد رفع العقوبات عن سورية وإعادة فتح السفارة الأمريكية بدمشق. أما عسكرياً عبر القيام بحملة للقضاء على داعش في البادية السورية وربما الدخول إلى مراكز المدن مثل تدمر التي تتمتع برمزية كبيرة في موضوع الحرب على الإرهاب بالنظر إلى أن روسيا قامت بتحرير المدينة من تنظيم داعش..
أما قضية محاربة داعش فتبدو لمن يعرف أمريكا وعلاقاتها مع التنظيمات الإرهابية في سورية مجرد نكتة سمجة. فالإدارة الأمريكية لا تريد إشراك الحكومة السورية ولا قوات الجيش السوري بهذه العملية، كما أن إسرائيل أعلنت منذ سقوط نظام الأسد إنها لن تسمح بنشر الجيش السوري الجديد في مناطق الجنوب السوري. وجاء التبرير الأمريكي بشأن عدم مشاركة الجيش السوري بالحملة الأمريكية أقبح من ذنب، حيث تقول واشنطن إن القوات الكردية والأمريكية تكملان بعضهما وتعرفان بعضهما وتتعاونان منذ فترة طويلة، وهذا غير متوفر لدى القوات السورية.
ولأن ترامب نرجسي إلى هذا الحد، فإنه إذا أحب أحب وإذا أبغض أبغض… فهو يتعامل مع قادة العالم هكذا بدون الاعتماد على أي معايير سوى المعايير الشخصية، ولهذا فإن سياساته تكاد تصيب أوروبا وقادتها بالجنون. لأن ترامب معجب ومحب للرئيس بوتين، ولأن ترامب صديق نتنياهو ولهذا كان غاضباً بعد قرار محاكمة الأخير، قبل أن يكملا معاً مشروعهما.. فبدون نتنياهو لا يستطيع ترامب تحقيق أحلامه واستكمال نرجسيته بالحصول على جائزة نوبل للسلام. ويبدو أن هذا يراوده لكنه حلم إبليس بالجنة بعد قراره بقصف إيران وفشله في وقف الحرب في غزة وأوكرانيا. وبالتالي لن ينفع ترامب القيام بعملية أو بحملة عسكرية لها طابع دعائي أكثر منه عسكري بالنظر إلى أهمية محاربة الإرهاب في سورية بذريعة القضاء على داعش في البادية السورية… والجميع يعرف أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن ترامب مجرد تاجر ولا تعنيه لا داعش ولا غيرها، وما يعنيه بالدرجة الأولى كيف يحصل على الأموال عبر صفقة سلام لا تكلفه سوى عملية محدودة ولكن أصداؤها واسعة، يتبعها اتفاق سلام بين إسرائيل والحكومة السورية يكون ترامب لا غير بطلها…