بانتظار افتتاح معرض دمشق الدولي الأول بعد التحرير… فإن المستقبل الاقتصادي ينبسط أمام السوريين من جديد..
رغم الانفراجات الاقتصادية والمعيشية في الكثير من القطاعات كالنقل والطاقة والمخابز، إلا أن الشكاوى تتسع جراء استفحال الأزمة وضعف الثقة بالاقتصاد الوطني وقلة الإنتاج والبطالة، بالإضافة إلى صعوبة الوضع الأمني في الجنوب السوري وبخاصة في السويداء التي تشهد أوضاعًا صعبة استدعت استنفارًا حكوميًا واجتماعيًا لإيصال المساعدات إلى المحتاجين وتأمين النازحين في مراكز إيواء في محافظة درعا المجاورة..
وربما كانت الأشهر الثمانية المنصرمة كافية من أجل أن تحدد الحكومة الانتقالية أولوياتها الاقتصادية… وجاء التوجه إلى أذربيجان من أجل تأمين الغاز عن طريق خطوط نقل تركية وتمويل قطري.. وتم التوقيع على اتفاقية لتوريد الغاز إلى سورية، وقام وزير الطاقة السوري المهندس محمد البشير بزيارة باكو وبدأ تنفيذ الاتفاق منذ بداية تموز الجاري باستجرار الغاز لتشغيل المحطات الكهربائية في المحافظات السورية، ما أدى إلى تحسن كبير في إيصال الكهرباء إلى المستفيدين في معظم المناطق. كما استطاعت الحكومة الانتقالية قبل ذلك تأمين مادتي المازوت والبنزين من قطر والسعودية، الأمر الذي أدى إلى حل مشكلة النقل العام في المدن الرئيسية والنقل العام بين المحافظات. وكانت أزمة النقل عويصة، فكان طلبة الجامعات لا يصلون إلا بشق الأنفس إلى جامعاتهم، وكان السوريون يقضون ساعات طويلة ينتظرون مركبات النقل..
وبالإضافة إلى مشكلتي النقل والطاقة، استطاعت حكومة الشرع أن تؤمن استقرارًا في أسعار المواد الأساسية وبخاصة مادة الخبز التي بقيت طوال الحرب قبل انتصار الثورة مشكلة لكل مواطن، وكان توفير الخبز يتطلب الوقوف لعدة ساعات وسط الطابور والازدحام أمام الأفران ليحصل المواطن على مخصصات محدودة على البطاقة الذكية. واليوم بات السوريون يتندرون بسخرية بتلك البطاقة…
ورغم الأوضاع الأمنية التي لا تزال تحظى باهتمام معظم السوريين، غير أن رفع رواتب القطاع العام مئتين بالمئة مع إبقاء أسعار معظم المواد ثابتة، وثبات سعر صرف الدولار بحدود عشرة آلاف ليرة سورية للدولار الواحد، انعكس بشكل إيجابي على الشارع السوري الذي يعاني بشكل كبير من البطالة وقلة الإنتاج، ما جعل معظم الشباب السوري يتجه إلى الهجرة إلى بلدان مختلفة بحثًا عن العمل، ومن هؤلاء الآلاف من حملة الشهادات العليا، وهؤلاء يفضلون العمل في الخارج بأعمال يدوية مجهدة على البقاء عاطلين عن العمل في البلاد، حيث لا تزال التحديات الأمنية وعدم الاستقرار السياسي وعدم وجود خطة حكومية لمحاربة البطالة تزيد من الهجرة. مع أن الحكومة أعلنت خلال الأسابيع الماضية، بعد رفع العقوبات عن سورية، عن مشاريع ضخمة وعن اتفاقيات ومشاريع استثمارية لا يزال تنفيذها رهن الظروف الأمنية…
ومع استمرار الحكومة في نهجها من أجل إعطاء الأولوية للقطاع الخاص على حساب القطاع العام الذي فشل في تحقيق متطلبات الشعب السوري، فإن هذا النهج وتلك الخطوات المتسارعة لخصخصة الاقتصاد السوري وربطه بالاقتصاد العالمي تزيد مخاوف السوريين الذين عاشوا لمدة ستة عقود وهم يعتمدون على الدولة من خلال العمل بالقطاع العام الذي وصل بمجموع مؤسساته ومصانعه ومعامله إلى مرحلة الخسارة والإفلاس جراء الفساد والنهب. فيما بقي القطاع الخاص في سورية يتحين الفرصة تلو الفرصة للانطلاق وإعادة بناء نفسه وتحويل المعامل والمصانع القديمة إلى معامل جديدة باستخدام التكنولوجيا الحديثة من أجل تحديث كل المؤسسات والمصانع والورشات وبناء معامل جديدة وتوقيع اتفاقيات لإعادة تهيئة الاقتصاد السوري المترهل…. وفي هذا المجال، كانت الاتفاقات الاقتصادية مع السعودية ومع الإمارات ومع تركيا ومع قطر تشكل حجر الزاوية في الاتفاقيات التي وقعتها الحكومة السورية مع العديد من دول العالم…… ونشير في هذا الإطار إلى الاتفاقية مع السعودية لاستثمار معمل الإسمنت الأبيض في مدينة عدرا الصناعية القريبة من دمشق، والذي بدأ العمل بتمويل سعودي. كما نشير إلى استثمار الإمارات العربية المتحدة 800 مليون دولار في مرفأ طرطوس الذي يعد بوابة كبيرة لسورية على العالم بالنظر لكونه من المنشآت الحيوية والضخمة في سورية…
ومع الاهتمام بإعادة تأهيل مرفأي طرطوس واللاذقية على البحر الأبيض المتوسط، فإن المطارات والحركة الجوية أيضًا أخذت حيزًا هامًا من الاتفاقيات، وأعلنت الحكومة عن تحويل مطار المزة العسكري القريب من دمشق إلى مطار للطائرات الصغيرة الخاصة برجال الأعمال، في وقت سجلت المعابر الحدودية عودة مئات آلاف السوريين إلى أرض الوطن، حيث تقوم الحكومة بتأمين كل مستلزمات الحياة لهؤلاء الذين عانوا طويلًا جراء التهجير خارج الوطن…
ومع الانفتاح الكبير والشامل على الاقتصاد العالمي وتجاوز العقوبات إلى حد كبير، فإن الحكومة تحاول تنشيط الأسواق في سورية بعد زيادة الرواتب للعاملين في الدولة والمتقاعدين منذ بداية آب الجاري، كما تقوم بجهد كبير على صعيد إقامة الأسواق الداخلية لعرض المنتجات، كمعرض أسواق إدلب مؤخرًا، وإقامة علاقات اقتصادية مع الدول العربية وبخاصة السعودية… ولا بد من التنويه في هذا المجال بالمنتدى الاستثماري السوري السعودي الذي افتتح الرئيس أحمد الشرع فعالياته في قصر الشعب، وهذا المنتدى الذي يشكل خطوة مهمة نحو تعميق العلاقات الثنائية وتحفيز الاقتصاد في ظل بيئة داعمة للاستثمار. كما شكلت فعاليات المنتدى بوابة لسورية لتعزيز التعاون بينها وبين السعودية في مختلف المجالات بما يسهم في دعم النمو وإعادة الإعمار وتحقيق التنمية المستدامة.
وبانتظار افتتاح معرض دمشق الدولي الذي سيكون بمثابة امتحان لقدرة الحكومة السورية الاقتصادية، خاصة وأنه المعرض الأول بعد التحرير وبعد الانفتاح الإقليمي والدولي الاقتصادي والسياسي على سورية بعد 15 عامًا من القطيعة والعقوبات.
ومن المتوقع أن يكون معرض دمشق الدولي هذا العام صورة باهرة لما يمكن أن يكون عليه الاقتصاد السوري الذي يمتلك تاريخًا حافلًا بالنجاح ويحتل مكانة مرموقة ويحظى بثقة العالم، ولا ننسى أن الصناعات السورية كانت دائمًا من الصناعات المنافسة، وتم اختيار القمصان القطنية التي أنتجتها شركة الشرق في حلب لتكون لباسًا موحدًا للاعبين في إحدى دورات كأس العالم لكرة القدم…. ومن المتوقع أن تعير الحكومة معرض دمشق الدولي هذا العام اهتمامًا كبيرًا نظرًا لرمزيته، خاصة وأن دمشق العاصمة تنعم بأجواء أمنية جيدة منذ التحرير، وسيكون للمشاركة الدولية الكبيرة في المعرض، الذي يعد من أكبر وأضخم وأعرق المعارض في الشرق الأوسط، أثر كبير على حركة العاصمة الاقتصادية..؟
ولا بد من الإشارة أيضًا ونحن نتحدث عن الوضع الاقتصادي أنه منذ اليوم الأول لسقوط نظام بشار الأسد كان هاجس الدولة الجديدة هو إعادة بناء ما دمرته الحرب الطويلة، وبالفعل نجحت الحكومة في فتح أبواب كثيرة للبدء بإعادة الإعمار، واستطاعت إقامة شبكة علاقات دولية وإقليمية وبخاصة مع تركيا والسعودية وقطر، وهذه الدول الثلاثة تتسابق في توقيع الاتفاقيات من أجل الاستثمار في سورية. غير أن الوضع الأمني الصعب الذي نتج بعد أحداث السويداء ودخول إسرائيل كعامل خطير على الساحة السورية كان له آثار سلبية بعد أجواء التفاؤل التي سادت الشارع السوري بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رفع العقوبات الاقتصادية عن سورية في آذار الماضي وعودة سورية إلى نظام سويفت المالي العالمي.
ورغم أن توقيع الاتفاقيات ومذكرات التفاهم والاتفاق على بناء الأبراج والمطارات وشبكات الطرق الحديثة هو أمر هام، وخاصة وأن الشركات التي ستقوم بذلك شركات كبرى مثل شركات التطوير العقاري العملاقة، إلا أن الأوضاع السياسية والأمنية والتدخلات الأجنبية واستدعاء التدخلات الخارجية كلها عوامل تؤخر الانطلاق بإعادة الإعمار والاستثمارات. غير أن الثقة تزداد يومًا بعد يوم، خاصة وأن حكومة الشرع مصممة على تحقيق نجاح اقتصادي من خلال المصالحات مع التجار ورجال الأعمال الذين يديرون عجلة الاقتصاد السوري منذ عدة سنوات، بالتوازي مع استكمال الإجراءات الدستورية خلال المرحلة الانتقالية التي تم تحديدها بخمس سنوات، وهي فترة ستمثل النجاحات الاقتصادية خلالها أساس الاستمرار بالحكم، لأن الشعب السوري يشعر بالتعب والخوف الشديد من المستقبل السياسي، وهو يعول على النجاح الاقتصادي أكثر من أي عامل آخر بكونه القاطرة التي تسير بالشعب السوري إلى شاطئ الأمان والنجاح.
ولا ننسى أن الوضع الاقتصادي والمعيشي ساهم بشكل كبير في سقوط نظام بشار الأسد، ولم نجد مواطنًا سوريًا واحدًا يدافع عن هذا النظام الذي أفقر الشعب ونهب خيراته وسرق ثرواته لعشرات السنين، حتى أصبح السوريون يبيتون على الطوى فقرًا وجوعًا ولا يفكرون سوى بتأمين لقمة العيش… ولكن هذه الصورة تغيرت منذ فجر التحرير، وظهر جليًا أن السوريين دخلوا عصرًا جديدًا ومختلفًا من الناحية الاقتصادية بعد أن كادوا يفقدون الأمل، فقد أصبحوا بعد التحرير على قناعة بأن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ستكون أفضل كثيرًا في المستقبل القريب…
ومن المنتظر أن يكون النجاح الاقتصادي الذي بدأت بوادره تظهر في الكثير من القطاعات الحيوية في سورية هو السبيل للاستقرار السياسي وإلى تعزيز اللحمة الوطنية وعودة الجميع إلى حضن الدولة..
ولا شك أن الاستقرار السياسي والانفتاح العربي والدولي على سورية والعودة إلى تفعيل الاتفاقيات الدولية مع الدول الصديقة كروسيا التي أكدت أكثر من مرة أنها حريصة على تحسين علاقاتها مع سورية وعلى مساعدتها في إعادة الإعمار، خاصة وأن روسيا ترتبط بعلاقات تاريخية اقتصادية وسياسية مع سورية. كما أن روسيا اليوم ترتبط مع دول الخليج وتركيا بعلاقات سياسية واقتصادية قوية، ويمكن للحكومة السورية أن تستغل شبكة العلاقات هذه وإعادة الاستقرار إلى سورية عبر البوابة الاقتصادية والاستثمارات، بالنظر لما تمتلكه سورية من موارد وثروات فوق الأرض وداخلها في الساحل وفي البادية وفي شرق البلاد وغربها وجنوبها، وبما تمتلك من موقع جغرافي يربط تركيا بالخليج، وهي تتوسط خارطة العالم وقاراته الثلاث، ويمكنها أن تستغل هذا الموقع أيضًا لتستعيد سيرتها الأولى ومكانتها ودورها على الساحتين الإقليمية والدولية…