وسط إجراءات أمنية مشددة، الشرع يفتتح معرض دمشق الدولي بمشاركة دولية واسعة وحضور تركي وسعودي لافت…. وإسرائيل تقصف دمشق والجنوب… وتُبطل الحلول… فهل يعيد التعاون بين دمشق وموسكو التوازن من جديد… أم ستبقى سورية على كف عفريت…
تتلاحق الأحداث السياسية والأمنية والاقتصادية في سورية لدرجة أن السوريين لا يبيتون على خبر سابق. وبينما كانت الحكومة السورية بقضها وقضيضها مشغولة تشارك في افتتاح الدورة 62 لمعرض دمشق الدولي بحضور الرئيس أحمد الشرع تحت شعار “سورية تستقبل العالم” بمشاركة دولية غير مسبوقة، كانت إسرائيل تسرح وتمرح في القنيطرة ودرعا وتقصف منطقة الكسوة القريبة من مدينة المعارض التي شهدت مهرجان الافتتاح الضخم الذي كان الأتراك والسعوديون الحاضر الأكبر فيه من خلال حجم المشاركة وحجم التمثيل الرسمي والخاص.
ومع أن الضغوط على الحكومة السورية جراء التدخل الإسرائيلي تتزايد وتتسع، إلا أن افتتاح المعرض كان بمثابة رسالة سياسية أكثر منها رسالة اقتصادية بأن الحكومة تمضي في برنامجها الاقتصادي وانفتاحها على العالم دون الالتفات إلى الوراء بغرض النهوض بسورية من جديد بعد رفع العقوبات الاقتصادية وفتح الأبواب العالمية واستعادة علاقاتها الدولية.
وفي مقابل التقدم الذي أحرزته حكومة الشرع على الصعيد الاقتصادي وزيادة حجم الاستثمارات وعدد الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي تم توقيعها خلال المعرض الأول بعد التحرير وخلال زيارات الوفود الخليجية والتركية إلى سورية، ورغم التحسن اللافت في تأمين الخدمات الأساسية والكهرباء ورفع رواتب القطاع العام، غير أن كل ذلك لا يبدو أمرا مهما أمام التحولات السياسية المتسارعة في سورية. فقد أحرجت التطورات في السويداء الحكومة بعد تسارع الخطوات الانفصالية التي اتخذتها مشيخة عقل الموحدين الدروز بدعم من إسرائيل. فلا يزال طريق دمشق السويداء الحيوي مغلقا رغم كل الجهود لفتحه. كما شكلت السويداء الحرس الوطني على شاكلة قوات سورية الديمقراطية بالتوازي مع قرار الأكراد وقف خطوات تنفيذ اتفاق العاشر من آذار مع حكومة دمشق والمطالبة باتفاق جديد يمنحهم صلاحيات انفصالية أوسع وصولا إلى المطالبة بالفدرالية.
وفيما كانت الوفود المشاركة في معرض دمشق في دورته الثانية والستين والأولى بعد التحرير، وبخاصة الدول الخليجية وتركيا، يتحدثون عن فرصة للاستثمار وإعادة الإعمار وهم في سباق مع الزمن لعرض المشاريع لدعم الحكومة السورية في كل المجالات، وذلك في محاولة لتعويضها عن الإخفاقات الأمنية والسياسية وفشلها في كل المشكلات المستعصية في السويداء والحسكة والرقة بعد تأجيل الانتخابات التشريعية في هذه المحافظات. في وقت تعرضت فيه الجهود الحكومية الهادفة إلى تمكين الوحدة الوطنية بعد أحداث الساحل الدامية لانتكاسة حين أعلن ما أطلق على نفسه المجلس السياسي للساحل بيانه الأول للمطالبة بإقامة نظام فيدرالي لوسط وغرب سوريا تشمل اللاذقية وطرطوس وحمص وأجزاء من أرياف حماة بما فيها سهل الغاب. وهاجم البيان الحكومة الحالية وحكومة أردوغان ووصفها بالإرهابية. ودعا المجلس السياسي لأبناء الساحل ووسط سورية إلى تنفيذ القرار 2254 وإلى عقد مؤتمر وطني جديد بإشراف الأمم المتحدة. واعتبر البيان أن شكل نظام الحكم الأنسب لسوريا هو الاتحاد الفيدرالي.
وفيما يشكل تحالف الأقليات تحديا وجوديا لحكومة الشرع في دمشق، إلا أن الخطوات المتسارعة التي تتخذها هذه الحكومة يمكن أن تساهم في قلب الطاولة على الانفصاليين، مع العلم أن معظم الشعب السوري وجميع المكونات لا ترغب بالانفصال، ولكن الذي يجبر الجميع للمطالبة بالفدرالية واللامركزية هو الخوف من الانتهاكات وأعمال القتل التي تمارسها المجموعات الإرهابية الأجنبية التي لم تلتزم إلى اليوم بأية قواعد أو تعليمات تصدرها وزارة الدفاع، ومارست أعمال القتل ضد المدنيين الأبرياء لأسباب دينية وذلك خلال أحداث الساحل في آذار الماضي وخلال أحداث السويداء في تموز. ولربما تحتاج الحكومة السورية إلى تسريع خطواتها الاقتصادية لكسب الشارع السوري بالتوازي مع اتخاذ خطوات سياسية لإشراك الجميع بالحكم. فالشعب السوري بأجمعه يريد الأمان وخروج الفصائل الإرهابية وتحسين الأوضاع الاقتصادية قبل كل شيء.
وكان واضحا من حفل افتتاح معرض دمشق الدولي حجم التنافس بين تركيا التي مثلها في الافتتاح وزير التجارة التركي عمر بولات، فيما كان القطاع الخاص السعودي يهيمن من خلال مجموعة عصام المهيدب والذي تحدث باسم المملكة التي مثلها رسميا مساعد وزير التجارة السعودي الذي أشار في كلمة إلى أن سورية والسعودية واحد.
وبالنظر إلى الخصومة التركية الإسرائيلية المادة حول سورية ورفض إسرائيل لأي نفوذ تركي في جنوب سورية ووسطها، فإن السعودية والدول التي وقعت اتفاقيات إبراهيمية مع إسرائيل تتلاقى مع إسرائيل بطريقة ما ضد التدخل التركي والهيمنة التركية على القرار السوري. مع أن السعودية أدانت مرارا وتكرارا الاعتداءات الإسرائيلية مؤكدة أن الرياض قطعت أشواطا في علاقاتها مع دمشق بعد قرار واشنطن رفع العقوبات، وساهمت السعودية خلال الأشهر الماضية بإعطاء زخم ودفعة للاقتصاد السوري عبر تقديم المساعدات وإرسال الوفود وإقامة مؤتمر الاستثمار السوري السعودي والذي تم خلاله التوقيع على عدة مذكرات تفاهم تشمل مجالات متعددة.
وبموازاة الدعم الخليجي المتنامي لحكومة دمشق، فقد وصلت لأول مرة منذ سنوات طويلة أول باخرة تحمل محاصيل زراعية من أميركا الجنوبية وأوروبا بعد رفع العقوبات، ونقلت الشحنة شركة أميركية إلى الموانئ السورية مباشرة من دون المرور عبر تركيا أو لبنان.
في هذه الأثناء تستغل تركيا انعقاد معرض دمشق الدولي لتسجيل حضور لافت داخل المعرض بعد سلسلة الاتفاقيات الاقتصادية ومذكرات التفاهم التي تم التوصل إليها مع الحكومة السورية، في موازاة حضور خليجي واسع داخل المعرض واهتمام عالمي بهذه الدورة الثانية والستين لمعرض دمشق الدولي لدعم العهد الجديد بعد التحرير. وهذا ما أكد عليه وزير التجارة التركي عمر بولات الذي قال: “نزور دمشق برفقة مجتمع الأعمال لتعزيز علاقاتنا التجارية الثنائية مع سوريا ولحضور افتتاح معرض دمشق الدولي”. وأضاف أنه سيناقش من الجانب السوري فرص الأعمال الجديدة في قطاعات عديدة لا سيما قطاعات الأغذية والمقاولات والأثاث، وسيتم زيادة حجم التجارة الثنائية بين بلدينا وتنمية الاستثمارات وتعميق التعاون الاستراتيجي.
وهكذا فإن حكومة دمشق تحاول أن توازن العلاقات السياسية والاقتصادية بين الرياض وأنقرة، فتضع قدما في الشمال مع تركيا وقدمًا في الجنوب مع السعودية، وتتعرض لضغوط شتى من أجل تبديد المخاوف الأمنية وتفكيك الفصائل الأجنبية الإرهابية وتمضي في الملف الاقتصادي إلى الأمام. فيما يقوض التدخل الإسرائيلي جميع محاولات حكومة الشرع لتحسين الأوضاع الأمنية في الجنوب وفي محيط دمشق. ويتسع القلق لدى السوريين في جميع المناطق من التقسيم أو حتى الفدرلة، خاصة وأن الشعب السوري لا يريد التقسيم ولا يشعر بوجود مشكلة في ظل إقامة حكومة علمانية تستند على القانون والمواطنة كأساس للحكم. ويبدو أن تراجع الدور الأمريكي وتقدم الدور الروسي على الساحة السورية ربما يعيد من جديد فكرة تطبيق القرار 2254 القاضي بالمحافظة على وحدة سورية وسيادتها، خاصة وأن روسيا تقوم قبل التحرير بسنوات بمحاولات إيجاد حل للأزمة في سورية. وقد اتسعت مساحات العمل التي يقوم بها الروس بالنظر إلى علاقاتهم الجيدة مع الحكومة السورية من جهة ومع معظم المكونات السورية، عدا عن النقاش المعمق الجاري منذ سنوات بين روسيا وإسرائيل بشأن سورية، ما يمنح الروس مكانة جديدة ومساحة يمكنهم من خلالها التحرك في كل الاتجاهات مع السوريين ومع العرب ومع الولايات المتحدة ومع إسرائيل، عدا عن الروابط الاقتصادية والاتفاقيات التي تربط سورية وروسيا، ما يشير إلى أن موسكو وتركيا ربما تمنعان الخطوات التي بدأت بالساحل ووسط سورية لإقامة حكم فدرالي، مع العلم أن معظم السوريين في الساحل وحمص وحماة لا يرغبون بالانفصال عن دمشق بأي حال من الأحوال مهما بلغت الأوضاع الأمنية من التدهور. فالوطن السوري لا يرسم حدوده الأمن ولا الاقتصاد ولا حتى السياسة، وإنما الوطن السوري يرسم حدوده التاريخ والحضارة ووحدة المصير والدم الذي جمع لقرون أبناء الشعب السوري، عدا عن الشعور بأن مناطق تواجد الأقليات لا تصلح لتكون وطنا أبدا. ولهذا فالإرادة الوطنية التي تهيمن على الشارع السوري هي إرادة الوحدة والتلاحم الوطني. وربما تساعد روسيا بحكم علاقتها التاريخية مع سورية ومع مختلف المكونات السوريين لتجاوز هذا الاختبار الصعب من خلال وقف الاعتداءات الإسرائيلية وإعطاء ضمانات للأقليات بالساحل والجزيرة والسويداء بعدم تكرار هجمات الساحل والسويداء الإرهابية.
وأخيرا، إن معرض دمشق الدولي المستمر منذ العام 1954 حتى اليوم كان دائما نافذة ليس للحوار والوحدة والسلام والتعاون بين السوريين في مختلف المناطق، كما أنه بوابة سورية إلى العالم الخارجي. ويعد تظاهرة سورية وطنية لا مثيل لها في الشرق الأوسط، وهذا الشعور بأهمية هذا المعرض يشترك فيه معظم السوريين. وإذا كان الأمن والسياسة يفرقان بين السوريين، فإن الاقتصاد يجمعهم اليوم.