
رسالة من أوجلان إلى تلميذه مظلوم عبدي لإلقاء السلاح قبل نهاية العام…. والوزير فيدان في طهران بعد واشنطن.. وتركيا تعتبر قوات سورية الديمقراطية (قسد) خطراً على وحدة سورية وعلى أمنها القومي….
بين الإخوان المسلمين المدعومين من تركيا بصفتها متزعمة للإخوان بقيادة أردوغان، وبين الأكراد المدعومين من الولايات المتحدة بزعامة عبد الله أوجلان، تدور رحى معركة خفية برز قرنها الأول عندما وضعت واشنطن الإخوان المسلمين على لائحة الإرهاب في ضربة قوية ومفاجئة لتركيا…. أما قرنها الثاني… فقد برز في سورية من خلال النشاط التركي المحموم لتفكيك حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه تركيا حزباً إرهابياً مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري الذي شكله صالح مسلم عام ٢٠٠٣، والذي أعلن الإدارة الذاتية شرق الفرات عام ٢٠١٤، وقام بتشكيل قوات سورية الديمقراطية عام ٢٠١٥ بدعم أمريكي لمحاربة تنظيم داعش…
وتعتبر تركيا حزب الاتحاد الديمقراطي تهديداً لأمنها القومي، كما تعتبر قوات سورية الديمقراطية باعتبارها جناحاً عسكرياً للحزب تهديداً لوحدة سورية وسيادتها…
واللافت في الأمر، بعد إعلان زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان إلقاء السلاح بعد ٥٥ عاماً من القتال ضد الدولة التركية، التصريح الذي أدلى به مظلوم عبدي قائد قوات سورية الديمقراطية (قسد)، الذي رد على دعوة أوجلان لإلقاء السلاح وحل نفسه بقوله إن الإعلان يتعلق بحزب العمال الكردستاني فقط، مضيفاً “لا علاقة له بنا”.
وأما السبب الذي جعل عبدي يقول ذلك هو أن تركيا تعتبر حزب الاتحاد الديمقراطي وقوات قسد جزءاً لا يتجزأ من حزب العمال الكردستاني، ولا تفرق في تصنيفاتها بين قيادات الحزبين: حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي السوري، وتعتبرهما حزباً واحداً يأتمران بأوامر الزعيم التركي الكردي عبد الله أوجلان. وهذه الرؤية والمواقف التركية في تقييم الحالة الراهنة في شمال شرق سورية تعارض تماماً مع الرؤية والمواقف الأمريكية التي تتعامل بشكل مباشر مع حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) ومع قوات سورية الديمقراطية منذ تشكيلها في العام ٢٠١٥، بعد ضم وحدات حماية الشعب الكردي ووحدات حماية المرأة الكردية…
والمفارقة أن الحكومة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع تعمل ضمن هذه الأجواء وهذه البيئة المسمومة لإعادة توحيد سورية ومنع تقسيمها ومنع قيام إدارة ذاتية كردية في منطقة شرق الفرات، التي تعد سلة غذاء الشعب السوري لما تكتنزه من خيرات ونفط وغاز وقمح وثروات… وتحاول السلطة في سورية عبر إقامة علاقات متوازنة بين تركيا والولايات المتحدة استعادة منطقة شرق الفرات والتعاطي مع المشكلة الكردية المعقدة بسبب وجود العامل التركي بالكثير من الحذر والتروي، فيما تحرض تركيا على حسم المسألة عسكرياً وبشكل سريع بالتوازي مع التطورات الجارية في تركيا بعد قبول أوجلان تسليم السلاح والتحول إلى العمل السياسي. ولكن تصريحات اللواء مظلوم عبدي، الذي ولد في عين العرب (كوباني) على الحدود السورية التركية، وهي البلدة التي دحرت تنظيم داعش الإرهابي فاكتسبت مكانة هامة، ومع أن مظلوم عبدي يعد الابن الروحي لأوجلان، إلا أن تصريحات قائد قوات سورية الديمقراطية لا علاقة لها أبداً بالمشكلة الكردية في تركيا، وأن حزب الاتحاد الديمقراطي هو حزب سوري لا علاقة له بحزب العمال الكردستاني. وإعلان رفضه الامتثال لدعوة أوجلان لإلقاء السلاح كان له أصداء واسعة، حيث اعتبر عبدي أن أسباب التأخير في تنفيذ اتفاق العاشر من آذار الذي وقعه مع الرئيس الشرع تعود إلى مخاوف حقيقية لدى الأكراد من قيام الفصائل المنفلتة داخل وزارة الدفاع السورية بارتكاب مجازر بحق الأكراد إذا قاموا بتسليم أسلحتهم… ولهذا فإن مظلوم عبدي يرفض بشكل قطعي تسليم السلاح للدولة السورية، ويرفض التخلي عن الإدارة الذاتية في منطقة شرق الفرات، ويرفض الانضمام بشكل فردي إلى الجيش السوري، ويريد الانضمام ضمن فرقة كاملة مشكلة من قوات سورية الديمقراطية الحالية، والبقاء تحت سيطرتها على المحافظات الشرقية الثلاث: الرقة والحسكة ودير الزور، مع الحصول على مناصب قيادية في الأركان العامة السورية وقوات الأمن الداخلي، مع إبقاء الأسايش ضمن مناطق تواجدهم، وانضمام قوات جديدة من الأمن الداخلي لمساعدتهم لضبط الأمن في مناطق سيطرة قسد…
وفق هذه الصيغة، فإن الجمر سيبقى تحت الرماد في ظل عدم وجود ثقة بين قسد والحكومة السورية، وبين داعميهما في واشنطن وتركيا بعد إدراج الإخوان على لائحة الإرهاب وقبول أوجلان بإلقاء السلاح…
ورغم أن واشنطن تحاول إقناع تركيا بأن التجربة الكردية بالحكم الذاتي في شمال العراق ماثلة أمامها، ورغم أن الوجود الأمريكي العسكري بحد ذاته يشكل ضمانات لتركيا، غير أن الحكومة التركية تدفع باتجاه حل وتفكيك قوات سورية الديمقراطية وتضغط على حكومة دمشق لتسريع ذلك…
ولم تكتف تركيا بهذه الضغوط على حكومة دمشق وإطلاق التهديدات بخيار الحل العسكري، وإنما راحت تستخدم كل أوراق الضغط على الولايات المتحدة، وهي الداعم الرئيسي لقوات سورية الديمقراطية وحزب الاتحاد الديمقراطي. وجاءت زيارة هاكان فيدان، وزير الخارجية التركي، إلى العاصمة الإيرانية طهران قبل انتهاء موعد تطبيق الاتفاق بين مظلوم عبدي والرئيس الشرع في نهاية العام الجاري. وجاءت الزيارة بعد لقاء الرئيس الشرع مع ترامب في واشنطن، حين عطلت تركيا الاتفاق الأمني بين دمشق وإسرائيل برعاية أمريكية في أوج الصراع الدائر على الساحة السورية بين تركيا وإسرائيل والتهديدات المتبادلة بين أنقرة وتل أبيب، بسبب رفض إسرائيل لأي تواجد عسكري تركي في الجنوب وإعلان منطقة منزوعة السلاح في الجنوب، والاعتداءات المتكررة على قوات الجيش والأمن لإضعاف حكومة الشرع، وآخر تلك الاعتداءات العدوان على بلدة بيت جن بريف دمشق ما أدى إلى استشهاد عشرين مدنياً سورياً بالرصاص الإسرائيلي. وضمن هذه الظروف الصعبة جرت زيارة الوزير فيدان إلى طهران، وكانت إعلاناً لبداية معركة جديدة بالنظر لدور ومكانة طهران وأنقرة في هذه المرحلة…
ومع أن مظلوم عبدي أعلن دعمه لعملية السلام الجارية في تركيا بين حزب العمال الكردستاني وزعيمه عبد الله أوجلان، إلا أن عبدي رفض بشكل قاطع الاستجابة لدعوة أوجلان بإلقاء السلاح الذي بأيدي الكرد السوريين.
ولا شك أن ظروف تشكيل حزب العمال في تركيا كحزب يساري شيوعي خلال الحرب الباردة عام ١٩٧٨ مدعوم من الاتحاد السوفييتي تختلف كلياً عن ظروف تشكيل حزب الاتحاد الديمقراطي في سورية، خاصة وأن هذا الحزب كان في طليعة القوى التي انضمت إلى التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لقتال تنظيم داعش الإرهابي.
وبالتالي فإن معركة حزب العمال الكردستاني وأهدافها لإقامة دولة كردية تختلف عن ظروف قوات سورية الديمقراطية التي عليها اليوم ضغوط هائلة من داخل المكون الكردي ومن الحكومة السورية بقيادة الشرع، والذي أعلن مراراً رفضه القاطع للتقسيم والفدرالية، وأبدى مرونة في موضوع الاعتراف بالمكون الكردي واحترام ثقافة الكرد ولغتهم وتقدير الطابع الثقافي والقومي للكرد داخل الدولة السورية، في وقت يواجه الأكراد خطراً حقيقياً من تركيا التي وضعت معظم قياداتهم على اللوائح الحمراء لديها بصفتهم إرهابيين، فيما قتل وأعدم معظم قادتهم من قبل الجيش التركي باعتبارهم العدو الأساسي والوحيد…
ورغم مضي عام على انتصار الثورة السورية وثمانية أشهر على توقيع اتفاق العاشر من آذار بين الشرع وعبدي لدمج قسد بالجيش السوري، فإن تقدماً بطيئاً وغير ملحوظ تحقق حتى الآن، وذلك بسبب إصرار قوات سورية الديمقراطية على الانضمام إلى وزارة الدفاع السورية ككتلة واحدة وليس كأفراد، وبالتالي لن يتغير شيء على أرض الواقع سوى أن مرتبات عناصر قوات سورية الديمقراطية ستصبح من وزارة الدفاع السورية، وتبقى السيطرة الكردية على المنطقة، وهذا ما ترفضه الحكومة السورية التي تعارض منطق عبدي الذي يقول في مقابلة مع وكالة “أسوشيتد برس”: “نحن نتحدث عن عدد كبير، عشرات الآلاف من الجنود، بالإضافة إلى آلاف من قوى الأمن الداخلي، ولا يمكن لهذه القوات الانضمام إلى الجيش السوري بشكل فردي، مثل الفصائل الصغيرة الأخرى. بل ستنضم كتشكيلات عسكرية كبيرة تشكل وفقاً لقواعد وزارة الدفاع”.
أما تركيا بدورها فقد رفضت تصريحات عبدي على اعتبار أن أي تنظيم كردي مسلح يهدد أمنها القومي، مع أن الرئيس الشرع أبدى مرونة في موضوع الاتفاق مع الأكراد على عكس تركيا التي تتزايد مخاوفها من الدعم الذي تتلقاه قسد من إسرائيل أيضاً علاوة على الدعم الأمريكي.
ولا شك أن دخول العامل الإسرائيلي إلى المعادلة السورية بعد التحرير وانتصار الثورة السورية في الثامن من كانون الأول لعام ٢٠٢٤ بهذا الحجم من التدخل في الشمال والجنوب والوسط، أثار غضب تركيا وزاد من مخاوفها الأمنية، ذلك لأن إسرائيل لا تفرق بين الإسلام السياسي في تركيا وإيران باعتبار أن كليهما خطراً على إسرائيل ووجودها في المنطقة. كما وضع التدخل الإسرائيلي والاعتداءات اليومية الحكومة السورية أمام تحديات أمنية خطيرة في ظل وضع اقتصادي وسياسي معقد، مع احتفاظ الحكومة السورية بطبيعة الحال بعدد من أوراق القوة في مواجهة الوضع في شرق الفرات عبر وجود تفاهمات بين دمشق وكل من روسيا والولايات المتحدة بشأن الحفاظ على وحدة سورية وسيادتها، بالإضافة طبعاً إلى وجود ورقة القبائل والعشائر العربية شرق الفرات…
حيث يشكل المقاتلون الذين ينتمون إلى هذه العشائر نسبة كبيرة وراجحة ضمن قوات سورية الديمقراطية……
ولا يمكن فهم زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى طهران خارج الرؤية التي بدأت تتشكل في المنطقة، وهي ضرورة حشد كل القوى لمنع تقسيم سورية وتفكيكها، لأن ذلك سينعكس سلباً على كامل دول المنطقة وتقسيمها إلى فيدراليات الدروز والأكراد، وإضعاف المركز في دمشق لا يخدم سوى المصالح الإسرائيلية ومخطط إقامة مشروع أو حلم إسرائيل الكبرى، وإقامة ممر داود الذي يصل الكرمل في فلسطين المحتلة بكردستان على البادية السورية هو أول خطوة لإقامة هذا المشروع الخطير الذي تدعمه بقوة الولايات الأمريكية وقواعدها التي باتت تنتشر على طول هذا الممر في جنوب سورية والتنف وشرق الفرات، مع الإشارة إلى أن أمريكا تخطط لإقامة أكبر قاعدة عسكرية لها في جنوب سورية بعد التوقيع على اتفاقية انضمام سورية إلى التحالف الدولي لمحاربة داعش، وذلك خلال زيارة الرئيس الشرع لواشنطن، وبذلك أصبحت سورية وقوات سورية الديمقراطية لأول مرة ضمن هذا التحالف رغم كل التناقضات الموجودة بين الجانبين…
وفي رده على رسالة أوجلان لجميع الفصائل والمقاتلين لإلقاء السلاح والتحول إلى العمل السياسي داخل تركيا، اعتبر مظلوم عبدي أن إعلان أوجلان إلقاء السلاح لا يعني حزبه، وأن إلقاء حزب العمال لسلاحه عامل هام وخطوة إيجابية للمصالحة مع الحكومة التركية، رافضاً في الوقت نفسه وبشكل قطعي أن يكون حزبه الاتحاد الديمقراطي وقوات سورية الديمقراطية، التي تعتبرها تركيا جزءاً وتابعاً لحزب العمال الكردستاني، معنيان بإعلان أوجلان بأي شكل من الأشكال…
وتتهم تركيا قوات سورية الديمقراطية بأنها “امتداد لحزب العمال الكردستاني” المحظور لديها، وهو ما تنفيه “قسد” باستمرار، والتي أعربت مراراً طيلة الأشهر الماضية عن استعدادها لإبعاد المقاتلين الأكراد غير السوريين من صفوفها تجنباً لعملية عسكرية تركية تلوح بها أنقرة دوماً.
وزير الخارجية التركي هاكان فيدان اعتبر أن الهيكلية الحالية لقوات سورية الديمقراطية تهدد وحدة سوريا والأمن القومي التركي… وخلال زيارته المفاجئة إلى طهران التي لا تزال في حالة اشتباك حادة وتهديدات مع الغرب بقيادة أمريكا بعد حرب الـ ١٢ يوم مع إسرائيل، اعتبر فيدان أن العدوان والانتهاكات الإسرائيلية في الجنوب السوري تمثل خطراً على استقرار البلاد، وأن تركيا ماضية في اتصالات شاملة مع دمشق دعماً لوحدة وسلامة سوريا…
وفيما تحشد تركيا الجهود لتنفيذ اتفاق العاشر من آذار بهدف السيطرة على الوضع وإطلاق يد الحكومة السورية للسيطرة على المعابر والمطارات والحدود مع تركيا، فإن قوات سورية الديمقراطية من جانبها دعت الدروز والعلويين لمساندتها في مواجهة المرحلة القادمة. وهذا ما دفع الوزير التركي لزيارة طهران التي تحاول كل الأطراف المنخرطة بالصراع في سورية استمالتها واسترضاءها من أجل المعركة الحاسمة القادمة، خاصة مع اقتراب انتهاء المهلة التي أعطيت لقوات سورية الديمقراطية للانضمام إلى الجيش حتى نهاية العام.
وفي الواقع فإن تركيا اليوم أمام تحديات حقيقية بعد التوترات العسكرية مع إسرائيل على الساحة السورية، وإدراج الإخوان المسلمين على قائمة الإرهاب الأمريكية، وبعد التطورات في أوروبا واحتمالات توقف الحرب في أوكرانيا قريباً، ما يعني أن روسيا التي يستهويها اللعب في ساحة الشرق الأوسط حيث تبدو تركيا، على كل قدراتها ونفوذها، الضلع الرابع الضعيف على الساحة السورية بين إسرائيل وأمريكا وروسيا في حسابات الربح والخسارة……

