السوريون قلقون حول مستقبلهم.. وترامب يعتبر أردوغان مسؤولا عن التغيير في سورية.. وواشنطن في قرار مفاجئ ترفع العقوبات عن مسؤولين سوريين من النظام السابق…
توم باراك ينفي فشل المفاوضات للتوصل إلى اتفاق أمني بين سورية وإسرائيل..
من يده في النار ليس كمن يده في الماء… من يستمع إلى ما تقوله وتعلنه إدارة ترامب والمسؤولين في البنتاغون والخارجية والكونغرس يستغرب ويصاب بالدهشة، فبينما كان السوريون ينتظرون رفع العقوبات الأمريكية كاملة خلال زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى نيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة، فإذا بالرئيس ترامب يقرر رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على عدد كبير من المسؤولين الأمنيين السابقين خلال فترة حكم نظام بشار الأسد…
ومن يراقب التصرفات الأمريكية يظن للوهلة الأولى أن الحرب تبتعد وأن السلام الذي يبشر فيه ترامب دائما يقترب، غير أن هذه الصورة لا تزال باهتة وأقرب إلى السراب من الحقيقة، حيث أن واشنطن تستعجل السلام ولكنها تشعل النيران ويشغلها التسلية بمصير المنطقة، ويرمي مبعوثيها إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف وتوم باراك بالتصريحات هكذا جزافا، وكأن السلام في المنطقة أصبح مستحيلا وأن مفاتيح هذا الشرق أصبحت بيد إسرائيل والولايات المتحدة، فيما يتندر السوريون بطريقة ترامب وهو يخاطب الرئيس التركي أردوغان ويربت على كتفه بلهجة ساخرة ويقول له: “أنت رئيس رائع، وأنت من أسقط نظام بشار الأسد، وأنت وأسلافك لا تزالون منذ ألفي عام تحلمون بهذه اللحظة بالسيطرة على سورية وقد تحقق لك ذلك”. ويبحث السوريون عن معاني لهذه الكلمات وهم يدركون أكثر من غيرهم أن واشنطن وراء كل ما يحل بسورية، وأن أردوغان لم يكن إلا بيدقا في هذه اللعبة. ويبدو أن هذا الخطاب وهذه اللهجة الفارغة من أي مسؤولية ليست لهجة ترامب وحده، بل أصبحت الدعوات الغربية والإسرائيلية لاستغلال الوضع السياسي والعسكري الذي آلت إليه الأمور في سورية لصالح إسرائيل وأمريكا تتردد في كل وسائل الإعلام، فيما راح توم باراك يعلن بالفم الملآن أن المفاوضات بين سورية وإسرائيل لإنجاز اتفاق أمني لم تفشل، وسخر باراك من العرب وتاريخهم واعتبرهم مجرد قبائل وشعوب وقرى لا تصلح لتكون دولا كبقية دول العالم، وقال: “ليس سهلا نشر السلام في بلدان تتكون من قبائل وفرق”.
ويبدو أن الاستهتار الأمريكي وعدم المبالاة أمام الوضع الخطير الذي وصلت إليه المنطقة وارتفاع حدة العنف والتطرف واحتمالات التقسيم يشكل هدفا أمريكيا وليس هاجسا، وقد أقرت الخارجية الأمريكية بفشل حماية المواطنين في سورية، واعتبرت أن هذا الفشل يؤثر على مستقبل سوريا، وتوقعت الخارجية الأمريكية في بيان لها أن تتحسن الأمور الأمنية والسياسية في سوريا مع ارتفاع الحديث عن تشكيل حكومة جديدة في سورية بعد انتخابات مجلس الشعب التي قطعت مرحلة هامة من التحضيرات وعمل اللجان الانتخابية، وقالت الخارجية الأمريكية: “نحن على اتصال مستمر مع دمشق وكل شيء يسير في الاتجاه الصحيح”.
ولا يخفى على أحد ما تحدثه التصريحات الأمريكية اتجاه سورية من غموض وإرباك.
فقد كان من المنتظر التوقيع على اتفاق أمني بين سورية وإسرائيل ولكن ذلك لم يحصل، وقال البعض إن إسرائيل تطالب بممر إنساني من الكرمل إلى السويداء، وهذا ما رفضته الحكومة السورية التي تسعى لإعادة الوضع في السويداء إلى ما قبل أحداث تموز الدامية، ولكن إسرائيل لا تزال تشجع الانفصال والتقسيم وتدعم الدروز في هذا الاتجاه، وهو ما ترفضه حكومة دمشق التي تجد نفسها تحت ضغوط هائلة متعددة الأطراف دون أن تبدي واشنطن أي اعتبار أو اهتمام أو اكتراث بهذا التطور، بل على العكس، يعتبر توم باراك الذي شارك في اجتماعات باكو وباريس ولندن مع الشيباني ودان ديرمر مستشار نتنياهو بأن واشنطن لا تريد أن تواصل لعب دور الضامن الأمني في المنطقة، وأن ما يجري ليس مشكلة أمريكية، وقال: “بعد الحرب العالمية الثانية كنا نلعب دور الضامن الأمني لكن ذلك لم يعد متاحا الآن”، وأضاف أن: “الشرق الأوسط ليس مشكلتنا ويعود لبلدان المنطقة أن تقرر ما تريده”، وهذه إشارة إلى أن واشنطن تفلت الوحش الصهيوني ليعبث بالمنطقة، وأنها بعد أن دعمت الإرهاب في المنطقة تريد أن تتخلى عن مسؤولياتها وتترك الجمل بما حمل لحكومة نتنياهو لرسم خارطة المنطقة بعد أن حوّلت سورية ساحة فوضى عارمة لصالح إسرائيل التي تقصف دول المنطقة من غزة إلى سورية واليمن ولبنان والدوحة بوحشية دون أي اعتبارات لقوانين أو اتفاقات دولية.
ووسط هذه المعمعة السياسية، فإن زيارة الرئيس الشرع إلى واشنطن لا تزال بين أخذ ورد وسط جدالات ونقاشات حادة بين من يعتبرها زيارة تاريخية ناجحة كما وصفها وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، وبين من يعتبرها زيارة فاشلة طالما أنها لم تحسم موضوع العقوبات الأمريكية والاتفاقية الأمنية مع إسرائيل، رغم الانطباعات الإيجابية والتحسن الكبير في العلاقات السورية الأمريكية.
وبين الموقفين، يجد السوريون أنفسهم في قلق وحيرة حول النوايا الأمريكية، ذلك لأنهم باتوا يدركون أن الدور الأمريكي على الساحة السورية منذ الثامن من كانون الأول الماضي أصبح هو الدور الحاسم، وأن واشنطن باتت تتمتع بنفوذ كبير من خلال علاقاتها مع حكومة الشرع أولا، ومن خلال دعمها للأكراد ثانيا، وأصبحت بذلك تتمتع بنفوذ كبير أكبر بكثير من النفوذ التركي أو الإسرائيلي، وأصبح يختلط على السوريين في هذه المعمعة التمييز بين العدو والصديق، حيث كان الرئيس ترامب يجمع زعماء العالم الإسلامي ويخاطبهم بهذه اللهجة المتعالية، ولم يعقد اجتماعات ثنائية سوى مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يسعى لصفقة طائرات بوينغ وF35… وإلى دور جديد لبلاده في سورية والمنطقة، خاصة وأن تركيا أصبح لها امتداد في ليبيا والصومال، واليوم تريد أن تستعيد الأحلام العثمانية لتسيطر من جديد على سورية، وهي تسعى إلى توسيع نفوذها إلى الساحل وكامل سورية على حساب الأدوار الروسية والأمريكية والإسرائيلية.
ومع أن زيارة الشرع لم تحقق المرجو منها، غير أنها كانت زيارة هامة وضرورية كسرت بقايا العزلة الدولية وأدت إلى تغيير الصورة التي ارتسمت عن سورية وعن الرئيس الشرع ذاته، حيث أكد توم باراك أن هذه الصورة تتغير، وكان من المقرر التوقيع على الاتفاقية الأمنية التي ستحل محل اتفاق فض الاشتباك بين سورية وإسرائيل، وهي الاتفاقية التي وقعها الجانبان عام 1974، وتريد إسرائيل إلغاءها من طرف واحد بحجة أن النظام الذي وقعها قد سقط، رغم كونها اتفاق دولي وافقت عليه جميع الدول في الأمم المتحدة وهي نافذة وفق القوانين الدولية.
وإذا كانت أهم مشكلة تواجه سورية وحكومتها هي المحافظة على وحدتها وسيادتها، فإن تصريحات المسؤولين الصهاينة والأمريكيين وتصرفاتهم تؤكد أن هؤلاء يريدون عبر السيطرة على البادية السورية وإطلاق سراح المحتجزين من داعش شرق الفرات، يريدون تعويم الإرهاب الداعشي من جديد في سورية، ويريدون استخدام داعش لزرع الشقاق والفتن بين أبناء سورية، خاصة بعد أن رفض الرئيس الشرع في اللحظات الأخيرة التوقيع على الاتفاق الأمني بين سورية وإسرائيل، والذي تشترط إسرائيل فيه منحها ممرا إنسانيا إلى السويداء، مع العلم أن سورية أصلا غير راغبة باتفاق يقوض سيادتها وينزع سلاح جيشها في الجنوب ويمنع الطيران السوري من التحليق في سمائها، ولا تستعجل مثل هذا الاتفاق، وهي ترفض القبول بالشرط الإسرائيلي الجديد لأنه يقوض سيادتها ووحدتها، وهذا ما لم ترض به سورية التي كانت خلال المائة عام الماضية تعتبر إسرائيل العدو الوحيد لها، وهي اليوم بعد التحرير مصممة على إعادة الاستقرار إلى البلاد ومصممة على إعادة الإعمار ومصممة على استعادة دورها ومكانتها العربية والإقليمية والمحافظة على وحدتها، ولهذا فإنه من المستبعد أن تسمح سورية بإقامة ممر إنساني بين إسرائيل ومدينة السويداء لأن ذلك انتقاص من سيادتها وإمعان في تقسيمها.. وتستند سورية في هذا الموقف على دعم عربي وروسي وعلى دعم الأمم المتحدة وقراراتها النافذة بشأن الحل السياسي كالقرار 2254 والقرار الإسرائيلي المتعلق بضم الجولان والتي تعتبره الأمم المتحدة باطلا ولاغيا.، وخلال جميع اللقاءات التي أجراها الوزير الشيباني في نيويورك كانت الدعوة إلى المحافظة على وحدة سورية هي الأساس، وخلال لقائه مع نظيره المصري بدر عبد العاطي جددت مصر موقف مصر الثابت في الحفاظ على وحدة سوريا وسلامة أراضيها ودعم مؤسسات الدولة الوطنية…
وفي ظل التغيير الذي تظهر تداعياته على الساحة الدولية، ووسط حالة من الارتباك والقلق وعدم الوضوح، تحاول واشنطن تمرير مشروعها في المنطقة، وهو مشروع الشرق الأوسط الجديد بالاعتماد على القوة الإسرائيلية المتفلتة والتنمر الإسرائيلي، فيما تؤكد سورية أنها ستواصل السعي لإيجاد نقاط التقاء بما يجنبها المزيد من المشكلات، وتحاول بناء علاقات جديدة ومتوازنة مع جميع الدول على أساس المصالح المتبادلة، وذلك لاستعادة العافية والازدهار إلى سورية…
وتؤكد بعد مشاركتها الهامة والناجحة باجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة إن وحدة الشعب السوري والمحافظة على وحدة البلاد واجب لا مفرّ منه، وهو أساس لإعادة بناء سوريا الجديدة، وأن رفع العقوبات ليس غاية بحدّ ذاته، بل وسيلة لخدمة الشعب وجذب الاستثمارات وتحسين الاقتصاد وتطوير البنية التحتية وخلق فرص عمل لإعادة بناء البلد من داخلها.
قرابة عشرة أشهر على سقوط النظام، ولا تزال سورية تتلمس طريق الخلاص، وهي تحتاج إلى المزيد من الوقت، ذلك أن تركة النظام السابق ثقيلة، وخطوات الحكومة السورية لا تزال بطيئة وغير واضحة وسط الضغوط المتعددة والاعتداءات الإسرائيلية، وحاجة السوريين إلى مرحلة أطول من الهدوء ليختاروا طريقهم ويحددوا مستقبلهم ومصيرهم، فالوقت كفيل بحل كل المشاكل إذا تعذرت الحلول السريعة والحاسمة….