موسكو تفتح أبوابها للرئيس الشرع.. والرئيس بوتين يؤكد أن موسكو تسترشد دائماً بمصالح الشعب السوري ويصف العلاقات بين موسكو ودمشق بالقوية.. ولافروف يؤكد أن الرئيسين بحثا وضع القواعد العسكرية..
أجمع المحللون والمتابعون لتاريخ العلاقات السورية الروسية على أن التحالف بين دمشق وموسكو والتعاون الاقتصادي بينهما فوق كل اعتبار، وأن طموح روسيا لتجديد هذا التحالف لا يقل عن رغبة سورية لإقامة علاقات قوية والى تصفير المشاكل مع كل من يمد يد العون إلى سورية…
صحيح أن بوتين لم يخاطب الرئيس الشرع كما فعل الرئيس ترامب عندما وصفه لدى لقائه في الرياض بأنه رئيس قوي ورائع، ولكن بوتين أظهر من الحفاوة ومظاهر الاحترام ما يعزز كل التوصيفات الإيجابية التي درج الكثيرون على إطلاقها على العلاقات التي تربط بين دمشق وموسكو، وربما كشفت هذه المظاهر الاحتفالية خلال الاستقبال الفخم وخلال اللقاءات والمباحثات المفعمة بالإشراق والحيوية بما لم يكن أحد يتوقعه. وكان التفاعل بين الرئيسين كاملاً ولافتاً ولم يظهر ولو للحظة أي أثر لحالة العداء التي وسمت العلاقات التي كانت تسود بين الجانبين خلال المرحلة السابقة، بل طغت المصالح والاحترام المتبادل على ما عداهما من أمور وأحداث، حتى أن الرئيس الشرع بادر الرئيس بوتين الذي يعشق الرياضة بالقول بأنه شعر بالفرح وهو يقطع المسافة الطويلة يطلع الدرج مشياً على السجاد الأحمر كما لو أنه يمارس الرياضة… هكذا بهذه الأريحية وبهذه اللغة والروح الرياضية دخل الشرع إلى الكرملين معززاً مكرماً محاطاً بهالة من الاحترام، وهو يتجاوز الماضي القريب الصعب والمؤلم ويمضي بثقة إلى المستقبل رغم كل التحديات واضعاً نصب عينيه استقرار سورية ومستقبلها ومصالحها…. ولا ننسى أن روسيا لها تأثير قوي على جميع القوى والمكونات السورية ويمكنها أن تساعد في إعادة الأمن والاستقرار إلى سورية، كما يمكنها عرقلة وتعطيل كل الجهود والمبادرات إذا ما شعرت أنها تتعارض مع مصالحها وتتطاول على دورها بصفتها دولة عظمى على الساحة الدولية، خاصة وأن روسيا تعتبر الساحة السورية هي الساحة الأهم بالنسبة إليها ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وهذا ما تعمدت القيادة الروسية إظهاره دفعة واحدة خلال زيارة الرئيس الشرع، وهي الزيارة الأولى له إلى الكرملين بعد سقوط نظام بشار الأسد…
وكما في الكثير من زيارات الشرع إلى عدد من العواصم العالمية كانت دائماً الدهشة والمفاجأة تطغى على المشهد، كذلك في الكرملين أيضاً لم يكن الأمر طبيعياً في وقت تتجه فيه سورية إلى بناء علاقات جديدة مع الدول الغربية، غير أن ما شاهده العالم وما رآه المشككون كان مغايراً لأحلامهم وأوهامهم، فقد شهدت موسكو قمة سورية روسية في أجواء إيجابية باهرة، حيث أن موسكو أكدت من جديد وقوفها إلى جانب الدولة السورية الجديدة وهي تواجه التحديات الداخلية والخارجية، ومدت لسورية يد المساعدة والعون للمحافظة أولاً وقبل كل شيء على وحدتها وسيادتها، ولتقديم الدعم لها للخروج من أزماتها والانطلاق من جديد لتقرير مصيرها وبناء مستقبلها. وقد عكست تصريحات الرئيس بوتين هذه الحقيقة لدى توصيفه العلاقات بين البلدين باعتبارها علاقات قوية منذ 80 عاماً، كما عكست المباحثات بين بوتين والشرع أن كليهما يحمل في عقله وتفكيره هذا الإرث وهذه المحبة وروح الصداقة التي يتوارثها السوريون والروس جيلاً بعد جيلاً. وقد أكد الرئيس بوتين بعد الاستقبال الحافل للرئيس الشرع والوفد المرافق أن روسيا استرشدت دائماً بمصالح الشعب السوري في علاقاتها مع سورية، واعتبر الرئيس بوتين في أول لقاء يجمعه مع الرئيس الشرع في الكرملين أن: “التعاون بين روسيا وسوريا سيجلب نتائج جيدة… وأن اللجنة المشتركة للبلدين سوف تستأنف عملها” مشيراً إلى أن روسيا ستسهم في إنجاز العديد من المشاريع في سورية. وأشاد بوتين بإجراء الانتخابات البرلمانية في سورية… وبالاتصالات الوثيقة بين وزارتي الخارجية في البلدين.
وإذا كان الرئيس بوتين قد وصف العلاقات السورية الروسية بأنها قوية كالصخر، فإن الرئيس الشرع اعتبر هذه العلاقات واسعة وعميقة كالبحر، وأعرب الرئيس الشرع عن احترام سورية لكل الاتفاقات الموقعة مع روسيا، وأكد أن روسيا وسورية تربطهما علاقات جيدة، وأن سورية الجديدة تعيد ربط العلاقات الاستراتيجية والسياسية مع كافة الدول على رأسها روسيا، وشدد الرئيس السوري على أن جزءاً من الغذاء السوري معتمد على الإنتاج الروسي وكثير من محطات الطاقة تعتمد على خبرات روسية.
وفيما تطمح موسكو لتجديد العلاقات مع دمشق على أسس مختلفة عما كانت خلال المرحلة السابقة، إلا أن المشكلات والتحديات كبيرة، حيث لا يزال جزء من السوريين يعارض تحسين العلاقات مع موسكو، فيما لا يخفى على أحد الخصومات المتوارثة مع الدول الغربية وبخاصة بريطانيا وفرنسا اللتين عملياً تحاربان روسيا في سورية كما تحاربانها في أوكرانيا بالوكالة، وهذه الدول الغربية تريد استغلال انتصار الثورة السورية والاستثمار فيها عبر ضرب علاقات سورية مع أهم حليف لها لمواجهة الاحتلال والإرهاب وهي روسيا. وكان هذا واضحاً منذ اليوم الأول للتحرير حين طالبت فرنسا وألمانيا وبريطانيا بخروج القوات العسكرية الروسية من سورية وإغلاق القواعد العسكرية في حميميم وطرطوس والقامشلي….
ومع أن المحادثات كانت واضحة وشفافة وشملت جميع الجوانب بما فيها القواعد العسكرية والاتفاقات والاستثمارات المبرمة بين دمشق وموسكو، وقد أكد وزير الخارجية سيرغي لافروف أن الرئيسين بوتين والشرع ناقشا موضوع القواعد العسكرية الروسية في سورية.
ويبدو أن الرئيس الشرع كان صائباً في توجهه إلى موسكو من جديد حيث تعتمد دمشق سياسة متوازنة بين الشرق والغرب، ذلك أن معاداة روسيا مكلفة بالنظر إلى أن روسيا دولة عظمى وتستطيع استخدام الفيتو في مجلس الأمن لصالح الشعب السوري، كما أن علاقاتها في الداخل السوري وتواجدها العسكري يتيح لها المساعدة في دعم جهود الحكومة وبرامجها لإعادة الأمن والاستقرار إلى سورية والمحافظة على وحدتها وسيادتها واستكمال محاربة تنظيمي داعش والقاعدة والإرهاب عموماً… ومساعدة الدولة في حصر السلاح وتقليص بؤر التوتر وضمان عدم تسليح فلول النظام السابق في مناطق الساحل ووسط سورية على وجه الخصوص…
ورغم السجالات الحادة التي تبدت بحدة على مواقع التواصل بين المؤيدين والمعارضين لإعادة العلاقات بين دمشق وموسكو، غير أن زيارة الرئيس الشرع الأولى لموسكو كشفت أمام الجميع أنه لا طائل من كل هذه السجالات، ذلك لأن روسيا بهيبتها وعظمتها ودورها وضعت كل ثقلها لإنجاح الزيارة، وهي تدرك جيداً ارتباطات وعلاقات الشرع التي نسجها خلال فترة قصيرة مع معظم الدول الفاعلة على الساحة السورية وبخاصة مع القوى الأربعة الرئيسية وهي الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل ومع روسيا نفسها التي بقيت على تواصل مستمر مع حكومة الشرع منذ الثامن من كانون الأول من العام 2024، ومنذ ذلك الوقت لم تغب روسيا عن المشهد السوري رغم كل الحملات المغرضة والدعوات المناهضة لأي دور روسي جديد في سورية حتى من داخل السلطة نفسها…..
وفي حسابات الربح والخسارة فإن الرئيس الشرع رابح، رابح، وتحالفه مع روسيا يخدم عملياً جميع الأهداف التي تسعى الحكومة السورية لتحقيقها على المستويات المختلفة السياسية والعسكرية والاقتصادية، حيث تزداد التحديات أمام حكومة دمشق وهي بحاجة لكل من يمد لها يد العون والمساعدة، فدمشق تحتاج إلى صوت روسيا في مجلس الأمن حيث لا يزال الملف السوري بكل تداعياته حاضرا أمام المجلس، ومن المقرر أن تقدم الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا مشروع قرار جديد لتعديل القرار الأممي 2254 الناظم للعملية السياسية في سورية، كما أن روسيا تساهم في تحقيق الأمن الغذائي لسورية، وترتبط روسيا وسورية بعلاقات اجتماعية وطيدة، وهناك عشرات آلاف السوريين الذين يحملون الجنسية الروسية، ونشير في هذا المجال إلى أن الأمين العام لرئاسة الجمهورية السيد ماهر الشرع وهو شقيق الرئيس أحمد الشرع متزوج من امرأة روسية، كما نشير إلى أن عشرات آلاف الطلبة في سورية تخرجوا من الجامعات الروسية، وفي ذلك دلالات واضحة حول أهمية وحتمية العلاقات السورية الروسية التي تعتمد الثقة والصدق والاحترام المتبادل، وهي متجذرة وليست عابرة وطارئة، وهي علاقات عميقة تشمل كل مجالات الحياة وليست سطحية ومحدودة، وهي علاقات قوية ومتنوعة ومستمرة وقديمة وليست جزئية وعديمة القيمة والتأثير…
زيارة الرئيس الشرع الأولى لموسكو ولقائه مع الرئيس بوتين شغلت العالم، فراحت وكالات الأنباء ومحطات الإذاعة والتلفزيون ووسائل الإعلام تجوب في تحليلها شرقاً وغرباً وفي كل الاتجاهات لمعرفة مكنونات الزيارة وأهدافها، وكل إناء بالذي فيه ينضح، فبعض هذه الوسائل اعتمدت الواقعية السياسية والتوازن والهدوء في تحليل الزيارة ومخرجاتها على صعيد الداخل السوري وتأثيرها على العلاقات الخارجية السورية، أما البعض الآخر فإنه استخدم المبالغة والتهويل والتشكيك مع أن الزيارة كانت على الهواء مباشرة من مبدأها حتى منتهاها في الشكل وفي المضمون عبر التصريحات التي حرص الرئيسان الشرع وبوتين على أن تكون معبرة تختصر واقع الحال وتؤكد على الثوابت والقيم التي طالما حكمت العلاقات بين دمشق وموسكو..
فمن ناحية الشكل كانت لغة الوجوه تتكلم، حيث أن الشرع بدا في غاية الانشراح والبهجة وكان في موسكو مرتاحاً أكثر من كل زياراته الخارجية السابقة، وتلك رسالة إيجابية حيث أنه حصل على ما يريد من الدعم الروسي لبرنامجه، مع الإشارة إلى أمر هام يتعلق بالموقف الأمريكي الإيجابي من الزيارة التي تخدم الخطة التي ينفذها الشرع عبر تصفير المشاكل واتباع سياسات متوازنة مع كل الدول، “إذا حييتم بتحية فردوها بأحسن منها”.. وروسيا متلهفة لرد تحية الشرع ودعم حكومته وتعزيز دورها في وقت تتعرض مصالحها عبر أوكرانيا لهجوم غربي شامل لتقويض وجودها وحصر دورها وتقليص حدودها…
أما من ناحية المضمون فالملفات والقضايا السياسية والعسكرية والاقتصادية والإنسانية بين موسكو ودمشق لا تعد ولا تحصى، فطالما أن النوايا حسنة ويشعر كل طرف بحاجته الماسة للطرف الآخر لمواجهة التحديات المتعاظمة، فلا يمكن لدمشق أن تحقق الأمن والاستقرار وتنطلق بمشروع إعادة البناء والإعمار بدون روسيا، ولا يمكن لروسيا أن تممارس دورها، بصفتها دولة عظمى على الساحة الدولية بدون سورية التي تتمتع بموقع جيوسياسي هام بين قارتي آسيا وأفريقيا، وهذا ما أشار إليه وزير خارجية روسيا التاريخي والذي يعد مهندس السياسة الروسية الناجحة اتجاه المنطقة العربية حيث قال إن القواعد العسكرية الروسية في سورية لن تبقى قلاعاً عسكرية وإنما في عصر السلام ستتحول هذه القواعد إلى مراكز إنسانية لتقديم الدعم والمساعدات للدول المحتاجة في آسيا وإفريقيا، وأكد لافروف أن هذه القواعد كانت حاضرة في المباحثات بين الرئيس الشرع وبوتين. والشيء بالشيء يذكر، وعلينا أن لا ننسى أن روسيا تقيم علاقات جيدة ليس مع سورية والعراق ومصر والجزائر وإنما استطاعت أن تنسج علاقات متينة مع معظم الدول العربية ومع دول الخليج أيضاً ومن بينها السعودية والإمارات اللتين انضمتا مع مصر إلى منظمة شنغهاي… ولا ننس إذا نسينا أبداً التعاون العسكري بين روسيا وسورية التقليدي والذي يهدف بالدرجة الأولى في المرحلة القادمة لجم الاعتداءات الإسرائيلية، حيث تقوم الشرطة العسكرية الروسية بمساعدة قوات الفصل الدولية الاندوف في الجولان السوري المحتل لمراقبة الحدود ومنع التوغلات الإسرائيلية وضمان الأمن في المنطقة، كما أن القواعد العسكرية الروسية في شرق الفرات تشجع الأكراد على الاندماج مع الجيش العربي السوري الذي يعتمد على الأسلحة الروسية التي أثبتت دائماً أنها تتفوق على مثيلاتها في أي دولة من دول العالم.
زيارة الشرع إلى موسكو وإن انتهت واستغرقت عشر ساعات وشملت لقاءات مع أبناء الجالية السورية في موسكو، إلا أن مخرجات هذه الزيارة ستبقى طويلاً وسنحتاج إلى المزيد من الوقت حتى نتلمس انعكاساتها ونتائجها في داخل سورية أولاً وعلى المستوى الدولي، وعلى صعيد الدور الذي تلعبه موسكو على الساحة السورية…