
سورية على مفترق بين الوحدة والتقسيم… وإسرائيل تصعد عسكرياً وسياسياً وتخلط الحابل بالنابل… والجنوب السوري ساحة لنشر الفوضى وعدم الاستقرار…
لم يكن أحد يتوقع أن تحتفل سورية بالذكرى الأولى للتحرير والنصر وهي على هذه الحالة من التوتر والفوضى جراء التدخل الإسرائيلي في شؤونها الداخلية، والأحداث الأمنية ذات الطابع الطائفي، وذلك بعد أن تركت زيارات الرئيس السوري أحمد الشرع الخارجية والانفتاح على واشنطن وموسكو انطباعاً إيجابياً بالتعافي الداخلي وتجاوز الصعوبات…
حدثان كبيران، أحدهما في الجنوب السوري والآخر في حمص، كانا كفيلين بإعادة سورية تحت المجهر الدولي من جديد، بما يحملانه من رسائل تتعلق بمستقبل سورية والتحديات التي تواجهها.
الحدث الأول يتعلق بالتصرفات العدوانية التي تمارسها إسرائيل وحكومة نتنياهو لخلق الفوضى وعدم الاستقرار في الجنوب السوري، بعد أن تراجعت المساعي الأمريكية لتوقيع اتفاق أمني بين سورية وإسرائيل. وفي محاولة للضغط على حكومة الشرع، شنت إسرائيل عدواناً خطيراً وكبيراً على بلدة بيت جن بريف دمشق، وقتلت 20 مواطناً مدنياً وأصابت 26 آخرين، وذلك بحجة وجود عناصر من الجماعة الإسلامية في البلدة.
أما الحدث الثاني، فكان انفلاتاً أمنياً خطيراً في مدينة حمص، حيث هاجم العشرات من الشبان المسلحين من البدو من بني خالد وأحرقوا المحلات والمنازل وروّعوا السكان، قبل أن تتدخل قوات الأمن وتفرض النظام وتمنع وقوع مجزرة كالتي شهدتها مناطق الساحل والسويداء في آذار وتموز الماضيين.
الحدثان لا ينفصلان، فكلاهما يخدم إسرائيل ومصالحها ومشروع التقسيم الذي تسعى للوصول إليه إسرائيل… ولا شك أن الرد السوري على المستويين الرسمي والشعبي كان حاسماً، يحمل رسائل وطنية تؤكد على استعداد الشعب السوري على التضحية في سبيل المحافظة على كرامة وسيادة الوطن في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. وعلى إصرار الجيش والقوى الأمنية على وقف التجاوزات ومحاربة الفتنة الطائفية، فقد سجلت القوى الأمنية نجاحاً كبيراً وهي تحمي أحياء المهاجرين والأرمن في حمص من البدو الذين هاجموا المنطقة لدواعٍ طائفية، كما نجحت في حماية التظاهرات الاحتجاجية في الساحل وحمص والغاب، التي دعا إليها المجلس العلوي الإسلامي الأعلى للمطالبة بوقف الانتهاكات بحق العلويين وإطلاق سراح المعتقلين ومنح المسرحين رواتبهم. وقد أكد الرئيس الشرع أحقية المطالب، معتبراً أن بعضها مسيس، ودعا إلى التمسك بوحدة البلاد أرضاً وشعباً وجيشاً، وأكد أهمية الساحل السوري بكونه نافذة سورية إلى العالم الخارجي، وقال إن الحكومة تولي الساحل الأولوية. وقد تركت الخطابات التي وجهها الشرع إلى السوريين في المحافظات وزيارته إلى حلب بمناسبة الذكرى الأولى لانطلاق عملية ردع العدوان وبمناسبة النصر والتحرير أجواء مريحة، بكونها اقترنت بممارسات على الأرض، رغم أن التحريض الطائفي لم يتوقف. غير أن الحشود التي شاركت في التظاهرات في اللاذقية وطرطوس، ومن بعدها التظاهرات التي دعا إليها الرئيس الشرع شخصياً، بعثت برسائل واضحة مفادها أن السوريين جميعاً يرفضون التقسيم، وأن هناك إجماعاً وطنياً على وحدة البلاد ومقاومة المحتل الإسرائيلي والتصدي للمشروع الإسرائيلي الهادف إلى تقسيم سورية إلى كيانات وجزر تحت عنوان الفيدراليات واللامركزية السياسية، مع أن هناك إجماعاً وطنياً على اللامركزية الإدارية، وهو ما تدعمه بقوة الحكومة السورية.
ورغم كل التطورات المتسارعة في سورية منذ سقوط النظام قبل عام، فإن أحداً لم يكن يتوقع أن يظهر التأثير الإسرائيلي الخطير كما ظهر على الأرض في الجنوب السوري، وبخاصة في السويداء. كما برز التأثير الإسرائيلي على مستوى السياسة السورية الداخلية والخارجية. فمن جهة، صعدت حكومة نتنياهو المتطرفة في إسرائيل الضغوط العسكرية والأمنية على حكومة الشرع للتوقيع على اتفاق شامل بالشروط الإسرائيلية، وواصلت الدعاية الإسرائيلية حربها التحريضية ضد سورية، وزعمت حرصها على الأقليات في السويداء والساحل وشرق الفرات.
ومن جهة ثانية، تستغل حكومة نتنياهو علاقاتها مع إدارة ترامب من أجل ضرب العلاقة القوية بين دمشق وواشنطن. كما تعمل على تخريب العلاقة الأخوية والاستراتيجية بين دمشق وأنقرة تحت عنوان أن هذه الحكومة ذات خلفية إسلامية متطرفة وأنها تشكل خطراً على المنطقة وعلى أمن إسرائيل، حيث يتم وضع حكومة دمشق وحركة حماس في خانة واحدة، وتذكير الإسرائيليين بما فعلته حماس عندما هاجمت إسرائيل دون سابق إنذار في السابع من أكتوبر عام 2023.
وفيما يعيش السوريون حالة من القلق والحيرة جراء جسامة الأحداث اليومية التي تواجههم على المستويات الأمنية والاقتصادية وحتى السياسية، فقد جاء قرار واشنطن باعتبار الإخوان المسلمين منظمة إرهابية كمن يصب الزيت على النار، ويضاعف الحيرة والخوف والتوتر في المنطقة.. ذلك أن تركيا وقطر اللتين تدعمان الإخوان في المنطقة تربطهما علاقات متينة مع حكومة الشرع، وفي نفس الوقت حليفتان لأمريكا وإسرائيل، وهما تدعمان الثورة السورية منذ انطلاقتها وبعد انتصارها، وتساهمان في إرساء الأمن والاستقرار في سورية…
ولا شك أن تصنيف الإخوان منظمة إرهابية يعد ضربة أمريكية قوية وغير مباشرة للعلاقات السورية التركية والسورية القطرية، وهذا يتفق مع إسرائيل التي تتخوف من العلاقات بين دمشق وكل من الدوحة وأنقرة، وترى حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة في هذه العلاقات تهديداً للمصالح الإسرائيلية، ذلك لأن دولة قطر تخطط لبناء خطوط غاز تصل إلى أوروبا عبر الأراضي السورية والتركية، وهذا ما يتعارض مع المصالح والخطط الإسرائيلية والأمريكية، ومع مصالح روسيا الاتحادية أيضاً. وكما كان التدخل الإسرائيلي حاسماً في إبعاد إيران عن سورية، فإن إسرائيل ترى في الإسلام السياسي المدعوم من تركيا وقطر خطراً على أمنها القومي…. ومن الطبيعي أن تعارض روسيا وأمريكا اللتين تعملان معاً لتهميش الدور الأوروبي وإضعافه مشروع الغاز القطري، وإلا كيف نفسر القصف الإسرائيلي على الدوحة بحجة اغتيال قادة حماس؟ وهذا يفسر أيضاً القصف الإسرائيلي الذي استهدف القوات التركية في سورية لتحجيم الدور والنفوذ التركي الواسع على الأراضي السورية…
التصعيد الإسرائيلي والضغوط التي تمارسها حكومة نتنياهو ضد حكومة الشرع تهدف إلى إجبار الحكومة السورية على التوقيع على اتفاق سلام شامل وتقديم ضمانات أمنية لإسرائيل، الأمر الذي ترفضه حكومة الشرع حتى الآن. ولهذا فإن إسرائيل تعمل على تقسيم سورية إلى أربع كيانات أو دول إذا ما رفضت حكومة الشرع تنفيذ الشروط الإسرائيلية، وهي شروط لا يقبلها أي سوري ولا يمكن للحكومة السورية قبولها لأنها تعد بمثابة استسلام وركوع. ولهذا تواصل حكومة نتنياهو ضغوطها وحملاتها العسكرية والأمنية والإعلامية والسياسية ضد حكومة الشرع بشكل هستيري، ويعد العدوان على بيت جن بريف دمشق ودعم تحركات الساحل للانفصال عن الوطن الأم نقطة تحول خطيرة في المشروع الإسرائيلي ضد سورية….
وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني اعتبر أن الاعتداءات الإسرائيلية انتهاك صارخ للسيادة السورية وللقانون الدولي، وأكد التزام سورية الكامل باتفاق فض الاشتباك لعام 1974، وأكد حرص الحكومة على حماية سورية ومنع أي تصعيد إقليمي، ودعا الأمم المتحدة والجامعة العربية لاتخاذ موقف حازم لوقف انتهاكات إسرائيل ضد سورية…
أما عن ردود الفعل السورية حول العدوان الإسرائيلي على بيت جن بريف دمشق، فقد اتخذت مسارين: الأول رسمي عبر الدبلوماسية السورية، والآخر شعبي حيث خرجت تظاهرات في معظم المناطق السورية للتنديد بالعدوان وتعزيز الوحدة الوطنية. وأكد المتظاهرون على وحدة سورية وجيشها وأرضها. وقد وصفت معظم الدول إسرائيل بالدولة المارقة وأدانت العدوان الهمجي على بيت جن بريف دمشق، كما نددت معظم دول المنطقة بمحاولات إسرائيل تركيع سورية ونسف المساعي والجهود الأمريكية للتوصل إلى اتفاق أمني بين سورية وإسرائيل، ومحاولتها ضرب وحدة سورية وتشجيع الحركات الانفصالية فيها ومنعها من التقدم والتعافي… وتمثل التعاطف مع سورية عبر الإدانات الواسعة من الجامعة العربية والسعودية وتركيا وقطر ومصر ودول أمريكا اللاتينية وأوروبا.
ومع أن إسرائيل باتت تواجه بدورها موجة عالية من الانتقادات والإدانات بالنظر إلى تصرفاتها وجرائمها الموصوفة، إلا أنها تحاول تحقيق حلمها التوراتي وإعادة رسم حدودها وصولاً إلى إقامة ممر داود عبر البادية السورية، في وقت ينتهج نتنياهو سياسة حافة الهاوية ويحاول الهرب إلى الأمام لمنع محاكمته داخل إسرائيل بتهم الفساد… وخارجها بتهم ارتكاب جرائم حرب موصوفة في غزة.
وعلى الجبهة السورية الداخلية، أكدت التجمعات والتظاهرات الكبيرة التي شهدتها مناطق واسعة من سورية على وجود إجماع وطني بضرورة المحافظة على وحدة سورية واستقرارها وتجاوز دعوات التحريض، وإعطاء فرصة للحكومة من أجل إثبات قدرتها على استعادة الاستقرار وحماية السوريين ووقف الانتهاكات ومنع تكرار مأساة الساحل والسويداء في آذار وتموز الماضيين…
أما الرد الرسمي فقد جاء من الخارجية السورية التي اعتبرت أن ما حدث في بيت جن بريف دمشق من استهداف إسرائيلي أدى إلى ارتقاء 20 شهيداً وإلى إصابة العشرات بجروح، ونزوح سكان البلدة إلى القرى المجاورة، يشكل جريمة حرب متكاملة الأركان، وأكدت الخارجية حق سورية بالدفاع عن نفسها والحفاظ على سيادتها.
وفي نيويورك، قال إبراهيم علبي مندوب سورية الدائم لدى الأمم المتحدة إن سورية لن توقع على أي اتفاق أمني مع كيان الاحتلال قبل وقف العدوان الإسرائيلي على سورية.
وهكذا تقف سورية بعد عام من الثورة والتحرير على مفترق طرق بين الحفاظ على وحدتها وسيادتها وبين التقسيم والتفكك، وسط اتساع المخاوف من أن تتمكن إسرائيل من نسف المساعي التي تقوم بها إدارة ترامب من أجل توقيع اتفاق أمني يضمن سيادة سورية ووحدة أراضيها… غير أن الرهان على وعي السوريين وقدرتهم على تجاوز التحديات والتراكمات والأمل كبير بأن تستطيع الحكومة تنفيذ كل المتطلبات التي تتعلق بخطوات تنفيذ القرار 2799، والذي يقضي بضرورة التخلص من الإرهاب والقضاء على المسلحين الأجانب في سورية خلال ستة أشهر، وتوقيع اتفاق أمني مع إسرائيل يتضمن بالدرجة الأولى تقديم ضمانات أمنية كاملة وحماية الأقليات ومنع الانتهاكات بحقهم. وفي حال فشلت الحكومة في تطبيق هذه الشروط والمطالب، فإن القرار 2799 تحت الفصل السابع، ويمكن بناء على هذا القرار أن تتعرض سورية لا سمح الله لتدخل دولي مباشر لفرض الشروط التي تلبي الاحتياجات والمصالح الإسرائيلية.. ذلك لأن وجود خلافات جوهرية بين سورية وإسرائيل حول مصير التفاوض، وتبحث دمشق عن اتفاق أمني تلتزم بموجبه إسرائيل بالانسحاب من المناطق التي احتلتها بعد سقوط النظام السابق، بينما تريد إسرائيل تركيع سورية وفرض الاستسلام عليها، وهذا ما لا يمكن حدوثه على الأقل في الوقت الراهن…

