
واشنطن وموسكو تصفان المحادثات بشأن خطة السلام الأمريكية لإنهاء الحرب في أوكرانيا بالإيجابية
موسكو توافق على بعض المقترحات الأمريكية.. ولا تدعم الدبلوماسية الصاخبة
الرئيس بوتين يلتقي ويتكوف وكوشنر في الكرملين… وروبيو يعلن إحراز تقدم في المفاوضات.
كلما اقتربت المفاوضات الروسية الأوكرانية برعاية أمريكية من إنهاء الحرب ووقف القتال في أوكرانيا، فإن أوروبا تشحذ سكاكين الكراهية والحقد ضد روسيا لتعطيل الحل وعرقلة الجهود، وتنقض على أي بادرة إيجابية لوضع حد لهذه الحرب، وذلك عبر تقديم الأسلحة إلى نظام كييف وزيادة حزم العقوبات على روسيا، وإثارة زوبعة إعلامية وتحريضية ضد روسيا التي تعد بكل مقاييس الربح والخسارة رابحاً على المستوى العسكري والاقتصادي والسياسي. ولهذا تلجأ أوروبا لأي مكان أو أمر يثير الاستفزاز، كما هو حالها بالأصول الروسية المجمدة في أوروبا، فهي تستخدم هذه الأرصدة لتحويلها إلى أوكرانيا، وشراء الأسلحة بثمنها.
وقد اعتبر الأمين العام لحلف الناتو، بعد أن تلقّت أوروبا الأنباء الإيجابية والتقدم الذي طرأ على صعيد المفاوضات بشأن خطة السلام الأمريكية لإنهاء الحرب في أوكرانيا، قال إن أفضل طريقة للضغط على موسكو هي بتدفق الأسلحة وفرض العقوبات……
ولا شك أن الدبلوماسية الصاخبة التي تتبعها أوروبا في مقاربتها للحرب في أوكرانيا، والأجواء المسمومة والتحريض ضد روسيا، تثير غضب موسكو التي دعت خلال المفاوضات التي أجراها الرئيس فلاديمير بوتين مع المبعوث الأمريكي ويتكوف وكوشنر، صهر الرئيس ترامب، في الكرملين في الثالث من كانون الأول لمناقشة خطة السلام الأمريكية، دعت إلى انتهاج السرية والكتمان، وأكدت أنها لا تدعم الدبلوماسية الصاخبة خلال المفاوضات، وهي ترغب بإعطاء نفسها الوقت لحين إتمام وإنجاز مناقشة كل البنود التي وردت في خطة السلام الأمريكية التي تنظر إليها موسكو بإيجابية.
ومع أن واشنطن طالماً وصفت المفاوضات بالناجحة والبناءة والإيجابية، كما قال وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو بعد لقاء الرئيس بوتين مع ويتكوف، غير أن العراقيل وسياسات النكد والكراهية التي تظهرها أوروبا مع حملات التحريض ضد روسيا بشأن مجريات الحرب وغيرها، تؤدي إلى شحن الأجواء وتسميم المفاوضات، عدا عن خلق حالة من العصبية والتأثير السلبي على الجانب الأوكراني….
وفي محاولة لخلق مناخات وظروف أفضل، أعلنت موسكو أنها لا تدعم الدبلوماسية الصاخبة، وذلك في إشارة إلى الاستياء من محاولات أوروبا عرقلة المفاوضات وحشر نفسها فيها والتدخل السلبي، رغم أن موسكو وواشنطن لا تنظران برضى إلى الدور الأوروبي، وترغبان بحجب المعلومات والاحتفاظ بما يتحقق بينهما من نتائج إيجابية والإعلان عنها بالوقت المناسب لحين إنجاز الاتفاق كاملاً دون تشويش من قبل أوروبا التي تدفع باتجاه استمرار الحرب، وتحمل أوكرانيا حملاً ثقيلاً لا طاقة لها بحمله، وتدفعها لمواصلة الحرب حتى آخر جندي أوكراني…
لقد وصل التحريض الأوروبي والمبالغة في تصوير الخطر الروسي والتحريض ضد الأمة الروسية حد الهستيريا، ما أدى إلى إفشال كل الجهود والمبادرات التي لم تتوقف منذ اندلاع الحرب قبل قرابة أربعة أعوام. وكان أهم هذه المبادرات وأشملها وأكثرها وضوحاً على الإطلاق خطة ترامب لإحلال السلام وإنهاء الحرب في أوكرانيا، والتي جاءت بعد التفاهمات بين بوتين وترامب خلال قمة ألاسكا. ويبدو أن موسكو حريصة على نجاح خطة ترامب، وهذا ما دفعها إلى الدعوة لإجراء مفاوضات دون ضجيج وبنوع من السرية التامة، ومناقشة خطة ترامب بعيداً عن الصخب والجنون الأوروبي، وذلك لإعطاء هذه الخطة فرصة حقيقية للوصول إلى الهدف، وهو إنهاء الحرب، ومنع أوروبا من تحقيق مآربها وأهدافها، وهي بالتأكيد مآرب خبيثة واستعمارية أساسها الحقد والكراهية لروسيا، والغيرة والحسد من دورها ومكانتها الدولية المرموقة، وحالة المرارة التي تتجرعها أوروبا وهي تراقب الصداقة التي تجمع الرئيسين بوتين وترامب، والتي فشل أي زعيم أوروبي في إقامتها مع ترامب…
ولا شك أن الخطوات التي أنجزتها قمة ألاسكا بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والأمريكي دونالد ترامب لا تتوقف عند الحرب في أوكرانيا والتفاهم على صيغة السلام فيها، وإنما تتناول قضايا دولية عديدة تشمل قارات العالم ومشكلاته، وهذا التعاون الروسي الأمريكي يغيظ أوروبا ويضاعف من مرارتها وإصرارها على إطالة أمد الحرب، حتى لا تنكشف أوراقها ويظهر ضعفها بعد أن باتت مجرد حديقة خلفية للبيت الأبيض بعد حربي أوكرانيا وغزة.
وبالعودة إلى مجريات الأحداث المتعلقة بخطة ترامب والاجتماعات المكثفة التي عقدتها إدارته للترويج للخطة الشاملة والجدية لمناقشتها ولإقرارها في نهاية المطاف، طال الزمن أم قصر… فالخطة الأمريكية التي تم تنقيحها وغربلة بنودها في ثلاثة اجتماعات… في جنيف في سويسرا مع أوروبا… وفي ميامي بولاية فلوريدا الأمريكية مع أوكرانيا… وفي موسكو مع الرئيس فلاديمير بوتين في الكرملين… حيث أعلنت موسكو بعد كل هذه اللقاءات أنها وافقت على بعض الاقتراحات ورفضت أخرى… وأعلنت عدم رضاها عن الدبلوماسية الصاخبة المتبعة، في إشارة إلى رغبتها بتحقيق أجواء هادئة وظروف مناسبة لإنجاح المفاوضات التي تحتاج إلى الكتمان والسرية لمنع التدخل السلبي للاتحاد الأوروبي، مع العلم أن الهدف من التدخل الأوروبي هو كسر العلاقة بين أوكرانيا وروسيا رغم تاريخهما المشترك وحضور اللغة الروسية والثقافة المشتركة في معظم المدن الأوكرانية، خاصةً في خاركيف التي يتحدث سكانها الروسية. وربما حال التدخل الأوروبي عدة مرات دون توقف الحرب كما لاحت فرصة لإيقافها، وذلك لأن أكثر ما تخشاه أوروبا هو إعلان النصر في روسيا. وخطة ترامب التي تم تقليص بنودها من 28 بنداً إلى 19 بنداً هي من وجهة النظر الأوروبية انتصار كامل لروسيا، لأن ترامب أقر لروسيا منذ قمة ألاسكا بكل مطالبها، وتعتبر خطته الحالية التي يوليها العالم كله الاهتمام بمثابة اعتراف بشرعية المطالب الروسية…
ومن المتوقع أن تأخذ هذه الخطة، إذا ما تم إقرارها والموافقة عليها، مكانتها في التاريخ باسم الرئيس ترامب، وهو ما يسعى إليه الرئيس الأمريكي الذي تستهويه الألقاب والجوائز والهدايا، ويريد أن يسجل اسمه في التاريخ. ويبدو أن موسكو تساعده في هذا الأمر وتعطيه الوقت لتوضيح أفكاره وشرح خطته. مع الإشارة إلى أن موسكو لم تعلن موافقتها على الخطة، ولكنها لم ترفضها، بل على العكس كانت منذ الإعلان عنها شغلها الشاغل، وحرصت على إبداء شكرها واحترامها للرئيس ترامب بكونه يواصل اهتمامه في البحث عن طريقة يتم بموجبها وقف القتال… وخطة ترامب هي المحاولة الثالثة خلال عام لتسوية الصراع في أوكرانيا. ويبدو أن خطة ترامب في توقيتها وفي مضامينها ومعالجاتها لمواضيع الخلافات بشأن الأراضي المتنازع عليها والتي تطالب بها روسيا، وبشأن الضمانات الأمنية التي تطلبها أوكرانيا، تسير باتجاه النجاح، ولكنها تحتاج إلى الوقت، ذلك لأن الضمانات الأمنية وإنهاء الحرب سيرسم معادلات جديدة في أوروبا لعقود قادمة..
فالحرب في أوكرانيا ليست حرباً عادية كبقية الحروب، ولا شك أن نتائجها على أوروبا والعالم لن تكون أقل من حرب نابليون وهتلر ضد روسيا، مع أن روسيا اليوم تبدي كل نواياها الطيبة وحرصها على السلام وإعلاء شأن الشرعية الدولية. وتدرك روسيا أن حربها مع أوكرانيا بقيادة زيلينسكي لن تكون نتائجها التاريخية وتداعياتها على أوروبا بأقل من الآثار والتداعيات التي تركتهما حربي نابليون وهتلر، ذلك لأن روسيا هذه المرة تريد أن تثبت أقدامها في قلب العالم كقوة رئيسية لا يمكن تجاوزها ولا يمكن القفز من فوقها، وهذا ما تكشف عنه تصريحات الرئيس بوتين الذي أعاد لروسيا دورها كقوة عظمى ليس في أوروبا وإنما على مستوى العالم، وبات المحافظة على هذا الدور والمكانة مسألة حياة أو موت بالنسبة لروسيا…
ومع أن الجميع يدرك حجم التأثير الروسي على الساحة الدولية والدور الإيجابي الذي تلعبه روسيا بقيادة بوتين وهي تدافع عن الشرعية الدولية وتدعم القضايا المحقة، إلا أن موسكو تبعث برسائل إيجابية إلى أوروبا وإلى الدول المجاورة لها… وتقول إنها لا تسعى إلى الحرب ولا تريد مهاجمة أي دولة أوروبية كما تروج الدعاية الغربية لأن روسيا بعد توقف الحرب في أوكرانيا ستهاجم دولاً أخرى. ولكن روسيا تعلن أن هذا محض كذب، وتؤكد أن لها شرطاً واحداً: عدم انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، وهذا الشرط أصبح من البديهيات، كما أن عملية ضم القرم ومقاطعتي دونيتسك ولوغانسك، واعتراف الولايات المتحدة وأوروبا بذلك، أصبح من المسلمات السياسية التي تمكنت السياسة الروسية القوية التي اتبعها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ بدء الحرب في أوكرانيا في العام 2022 من ترسيخها وتثبيتها، ليس كأمر واقع ونتيجة للانتصارات والإنجازات العسكرية، وإنما بقوة الكلمة والمنطق والحجة والقانون….
روسيا الاتحادية التي تتصرف بثقة وبروح المسؤولية وبدون انفعالات أو أحقاد، تستند على وقائع ميدانية بعد أن حررت أكثر من 123 ألف كيلومتر مربع من أراضيها في الدونباس، وهي اليوم مصممة على تحرير كامل أراضيها وحماية مواطنيها..
مع المحافظة على نسبة نمو مرتفعة وامتصاص موجات العقوبات الأوروبية التي عادت بالضرر على أصحابها أكثر من روسيا، جراء ازدياد أسعار الطاقة 200 بالمئة في أوروبا، وإفلاس الشركات المتوسطة والصغيرة في ألمانيا وفرنسا ومعظم الدول الأوروبية، وغياب تدريجي للطبقة المتوسطة، وإغلاق آلاف الورشات والمعامل بسبب غلاء الأسعار وكلفة الإنتاج نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة. حيث كان النفط والغاز الروسيان يصلان بأسعار مقبولة، لأن أوروبا يمكن أن تتعرض لخطر شديد في الشتاء إذا ما انقطع الغاز عنها. والمفارقة العجيبة أن أوروبا تعمل ضد مصالحها وتركب رأسها، ولا تزال تصدر حزم العقوبات حزمة وراء أخرى تحت شعار هزيمة روسيا، التي أثبتت أنها تحارب منذ أربع سنوات دون أن تعتبر نفسها في حالة حرب، وإنما هي مجرد عملية عسكرية محدودة لاستعادة الدونباس في مفهوم العقيدة العسكرية الروسية.
مع أن موسكو تريد وقف القتال، ولكن ليس قبل تحقيق كامل أهدافها. وإذا كانت خطة ترامب هي الأقرب إلى المطامح والمطالب الروسية، إلا أنها تشكل فرصة لنظام كييف، لأن ما تقبله روسيا اليوم وفق خطة ترامب ربما ترفضه غداً. حيث أن أوكرانيا تخسر مع الوقت، وتخسر معها أوروبا، أما الرابح الأول فهي الولايات المتحدة الأمريكية التي تتصرف كما لو أن استمرار الحرب لا يضيرها في شيء وإيقافها لا يضيف إلى سلتها شيء، فهي تربح في كلا الحالتين طالما نجحت في خلق هوة عميقة بين روسيا والاتحاد الأوروبي لم تكن موجودة حتى خلال الحرب الباردة……
خطة ترامب تسير في مسار متصاعد لإنهاء الحرب، ولكن بصمت وبدون صخب. وإذا فشلت واشنطن في إعلان هدنة خلال أعياد الميلاد ورأس السنة، فإنها لن تفشل في وقف الحرب ولو بعد حين، بعد إعلان موسكو وكييف عن تفاؤلهما بخطة السلام الأمريكية لإنهاء الحرب في أوكرانيا.

