
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس وزراء الهند ناريندرا مودي يبحثان الشراكة الاستراتيجية ويشيدان جسور التعاون والصداقة بين الشعبين الروسي والهندي.
بعد بكين وقمة شنغهاي، وبعد قمة ألاسكا، شدَّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الرحال إلى الهند للقاء رئيس وزرائها ناريندرا مودي قبل أعياد الميلاد ورأس السنة، لينهي عاماً حافلاً بالأحداث السياسية، وليجدد الصداقة الروسية الهندية التي أرسى دعائمها الرئيس السوفييتي الأسبق ليونيد بريجنيف والزعيم الهندي جواهر لال نهرو، وليذكر العالم وكل من ينسى تاريخه أن الشراكة الاستراتيجية دائمة، وأن الهند، كما شاهدنا رائد الفضاء الروسي الأول يوري غاغارين من الأعالي “جميلة جداً”، لا تزال على الأرض أكثر جمالاً…
هي زيارة في توقيتها وظروفها تقدم العالم برؤية جديدة، وترسم معالم مرحلة جديدة، وترسخ معادلة الشرق مقابل الغرب.
ومع أن روسيا في المفهوم العام دولة أوروبية وليبرالية وعلمانية بعد سقوط جدار برلين والشيوعية، رغم أن أجزاء واسعة من أراضيها واقعة في آسيا، إلا أن سياساتها وتاريخها غير الاستعماري يجعلها قريبة من الهند والصين اللتين واجهتا الاستعمار البريطاني والياباني على التوالي.. وهي اليوم تواجه بريطانيا واليابان ليس كخصمين في السياسة بل كأعداء، ولهذا تكتسب زيارة بوتين أهميتها إلى الهند، والتي طغى عليها الجانب العسكري رغم الاتفاقيات الاقتصادية والثقافية والطاقوية والتكنولوجية الثنائية المتعددة، ورغم الحديث عن رفع حجم التجارة بين روسيا والهند إلى ١٠٠ مليار دولار حتى العام ٢٠٣٠…
فقد كان التعاون العسكري وتوق الهند، التي تواجه تحديات كبيرة ومتعددة في علاقاتها الدولية ومع الغرب الذي لا يريد أن يرى فيها أكثر من مستعمرة بريطانية سابقة – وهي الدولة الآسيوية النووية العملاقة في عدد سكانها واقتصادها ومساحتها وتقدمها العلمي والتقني – فإذا بالزيارة تكشف المستور وتفك عقدة الهند التي عادت من رحلتها الطويلة مع الولايات المتحدة بلا هبة أو قيمة أو إنجازات، فيما استطاعت أقل منها أن تنجز الكثير وتحقق نسبة نمو كبير. ويبدو أن المقاتلات الروسية “السو-57” وهي أقوى طائرة مقاتلة في العالم، ومنظومة الصواريخ الروسية “إس-400″، ستمنح الهند تلك المكانة والهيبة التي تحتاج إليها…
وبما أن الصداقة الحقيقية بين الشعوب والأمم تواجه التحدي الأكبر والاختبار الحقيقي من خلال التعاون العسكري ليس إلا… رغم أهمية التعاون السياسي والاقتصادي… فإن النقلة النوعية في العلاقات الروسية الهندية من شأنها أن تحدث تغييرات كبيرة في موازين القوى في آسيا أولاً وفي العالم ثانياً..
وهي فرصة حيث تشهد العلاقات الروسية الأمريكية مجرد فسحة صغيرة يتيحها وجود الرئيس ترامب في البيت الأبيض، ويعرف الروس أنها طارئة ولن تستمر. ولهذا فإن الرئيس بوتين يسرع في بناء وإقامة الجسور القوية الراسخة مع الهند، لا ليأخذها قليلاً من الحضن الأمريكي والبريطاني، وإنما ليمنحها فرصة الاستمتاع بالمجد والعظمة وأهمية أن يتحدى الهنود مستعمريهم، ويثبتوا قدرتهم العلمية وإمكاناتهم الاقتصادية ليس كدولة نووية فقط، وإنما كمحور آسيوي عملاق مع الصين وروسيا، وعبر منظمات وتكتلات اقتصادية كمنظمة شنغهاي والبريكس، اللتين تضعان أسس العالم الجديد الذي تفقد فيه الولايات المتحدة سطوتها على العالم وأن احتفظت بتفوقها العسكري وانتشار قواتها عبر العالم…
هي رسالة عسكرية روسية عبر الهند إلى الغرب في خضم الحرب الروسية الأوكرانية، التي يحاول الغرب من خلالها لي ذراع الرئيس بوتين، الذي بات اليوم رغم وجود عشرين ألف نوع من العقوبات الغربية على بلاده محاطاً بجدار عالٍ وسميك من الأصدقاء والحلفاء، ما يجعل العقوبات ترتد على أصحابها، الأمر الذي يعطي روسيا مكانة عالمية أكبر من أجل تنمية علاقاتها التجارية والاقتصادية والعسكرية مع مجموعة كبيرة من الدول الآسيوية كالصين والهند وإيران وتركيا وكوريا الديمقراطية والسعودية. وكل هذه العلاقات أصبحت تحكمها اتفاقيات ومعاهدات وتحالفات متينة وقوية، جعلت أوروبا والناتو برغم قوتها واقتصاداتها وتاريخها الاستعماري تبدو مجرد تحالفات قديمة تابعة لأمريكا، وتكاد تفقد مع الزمن شيئاً فشيئاً القيمة والتأثير أمام روسيا الفتية الصاعدة التي حجزت لنفسها بعد حربي سورية وأوكرانيا المكانة التي تستحقها على الساحة الدولية… في وقت أعلنت واشنطن إن روسيا لم تعد من الدول التي تهدد أمنها القومي.
وهذا إنجاز سياسي وعسكري يساعد روسيا على بناء المزيد من جسور التواصل مع جيرانها، ويعطي إشارات إيجابية على أن واشنطن تشجع العلاقات الروسية مع الهند، وذلك لأمر في نفسها ربما للتأثير على العلاقات الروسية المتعاظمة مع الصين التي تعتبرها الولايات المتحدة الخطر الداهم والمنافس القادم الذي تحسب له ألف حساب….
المؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيس بوتين ورئيس وزراء الهند ناريندرا مودي عكس روح الصداقة وعمق العلاقات بين موسكو ودلهي، والرغبة في دفع مسيرة التعاون بأقصى سرعة وفي جميع المجالات. فبعد مباحثات مستفيضة ثنائية وموسعة حول الشراكة الاستراتيجية بين روسيا والهند، والسياسة، والتجارة والاقتصاد، والقضايا العلمية والتكنولوجية، والتعاون الثقافي والإنساني، والعلاقات الدولية والإقليمية الراهنة. وبعد زيارة النصب التذكاري لمهاتما غاندي وافتتاح قناة آر تي الهندية التلفزيونية، وحضور فيلم وثائقي عن تاريخ العلاقات الروسية الهندية، أعلن الرئيس بوتين ومودي نتائج المباحثات في بيان صحفي مشترك أشاد بالتعاون الموسع بين موسكو ونيودلهي في مجال النفط والغاز والبتروكيماويات، والتكنولوجيا النووية السلمية، والمشاريع المتعلقة بالفضاء، بما في ذلك برامج الفضاء المأهول والملاحة الفضائية واستكشاف الكواكب.
كما أكد الطرفان أن 96% من المبادلات التجارية بين روسيا والهند تتم بالعملات الوطنية، ما يعزز الاستقرار المالي والتجاري بين البلدين..
ومع التنويه بالعلاقات الودية والصداقة والاحترام التي تجمع بين بوتين ومودي، فقد أكد الرئيس بوتين أن روسيا والهند تسعيان لعالم متعدد الأقطاب يحافظ على هوية الدول واحترام سيادتها، مشددًا على أن التعاون بين البلدين في إطار “بريكس” و”منظمة شنغهاي للتعاون” يهدف إلى تعزيز نظام عالمي أكثر عدالة وديمقراطية، والتمسك بالمبادئ الأساسية للقانون الدولي المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة.
ووصف بوتين حزمة الاتفاقيات الموقعة بأنها “قوية”، وأشاد بحفاوة الاستقبال التي قدمها له رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، مؤكداً أن المحادثات كانت مفيدة وبناءة، وغطت جميع جوانب التعاون الثنائي، بما في ذلك الدفاع والطاقة والتجارة والاستثمار والنقل والعمالة، إلى جانب مجالات استراتيجية مثل القطب الشمالي وممر الشمال-الجنوب.
وفي المجال العسكري، أكّد بوتين استمرار التعاون التقني بين روسيا والهند، مع التركيز على منظومات الدفاع الجوي “إس-400” وطائرة “سو-57” المقاتلة من الجيل الخامس، ووصف الأخيرة بأنها “أفضل طائرة في العالم”، مع تعزيز برامج التصنيع المشترك والتدريب على التقنيات المتقدمة.
من جانبه أعلن رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي عن اتفاق البلدين على تنفيذ برنامج جديد للتعاون الاقتصادي يمتد حتى عام 2030، موضحًا أن الشراكة الاستراتيجية ستسهم في تنويع الاقتصادين وجذب استثمارات متعددة القطاعات، بما يعزز من متانة واستدامة العلاقة الثنائية.
ورسم رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي خريطة طريق طموحة لتعزيز التعاون الاستراتيجي مع روسيا، واصفاً الهند بأنها “صيدلية العالم”، داعياً إلى تعزيز التعاون مع روسيا في إنتاج اللقاحات وتصنيع الأدوية المضادة للسرطان، وأكد قدرة البلدين على تجاوز الهدف التجاري السنوي البالغ 100 مليار دولار قبل الموعد المستهدف عام 2030.
وجرى توقيع اتفاقية استراتيجية لإنشاء مصنع متطور للأدوية المضادة للسرطان في مقاطعة كالوغا الروسية.
هي زيارة هامة لكلا الجانبين، فروسيا تطمئن بأن العقوبات الغربية لم يكن لها تأثير ما دامت الهند تشتري النفط والغاز منها، فيما تستمتع الهند بالصداقة الروسية ومعها الإس-400 والسو-57 اللتين تكفلان الهند التفوق في أي حرب تخوضها في المستقبل، عدا عن الفوائد الكبيرة جراء التعاون في إطار شنغهاي والبريكس.

