بعد سنوات من التطبيق القاسي، شهد ديسمبر 2025 حدثاً تاريخياً بوصول عملية رفع “عقوبات قيصر” الأمريكية عن سوريا إلى نهايتها. تمثل هذه الخطوة منعطفاً مفصلياً تنفتح بعده صفحة جديدة محفوفة بالفرص والتحديات، تتجاوز مجرد تغيير سياسي لتطال جميع مناحي الحياة في البلاد.
بدأت نهاية هذا القانون في 10 ديسمبر 2025، عندما صوّت مجلس النواب الأمريكي لصالح إلغائه. ثم أقر مجلس الشيوخ هذا القرار ضمن موازنة وزارة الدفاع للعام 2026، حيث صوت 77 سيناتوراً لصالح الإلغاء مقابل 20 معارضاً فقط. واختتمت العملية رسمياً بتوقيع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على القانون في 19 ديسمبر 2025، لتدخل سوريا مرحلة ما بعد “قيصر”.
وقد سُمي القانون باسم “قيصر”، المصور العسكري السوري الذي سرّب آلاف الصور التي توثق عمليات التعذيب في ظل النظام السابق. وكان الهدف المعلن منه عند فرضه عام 2019 هو حماية المدنيين عبر الضغط على نظام الرئيس السابق بشار الأسد. وقد لعب بالفعل، وفقاً لتصريحات بعض المشرعين الأمريكيين، “دوراً مهماً في سقوط نظام الأسد” الذي أطيح به نهاية 2024.
للعقوبات كانت تأثيرات عديدة منها على المحال الاقتصادي الذي ارهق لسنوات حيث كان لرفع العقوبات تأثير نفسي ومادي سريع، تمثل في تعافي سريع لليرة السورية التي شهدت الليرة ارتفاعاً فورياً بنحو 6% مقابل الدولار بعد يوم من تصويت مجلس النواب، وسط توقعات بتحسن مستمر. ويعزو الخبراء هذا التحسن إلى تراجع “عامل الخوف” الذي كان يدفع الأفراد والمؤسسات للاندفاع نحو شراء العملات الأجنبية. انخفاض متوقع في الأسعار من المتوقع أن يؤدي تحسن سعر الصرف، إلى جانب زيادة حجم المستوردات وتنافسية العرض، إلى انخفاض تدريجي في أسعار السلع الاستهلاكية. تحسن في بيئة الأعمال يمنح رفع العقوبات أصحاب الأعمال قدرة أكبر على توفير المستلزمات وتسهيل المعاملات المالية، ما يرفع وتيرة النشاط الاقتصادي.
رفع العقوبات تفتح مجال نحو إعادة الإعمار والاندماج العالمي و يُتوقع أن تبدأ الآثار الهيكلية الأعمق في الظهور خلال عام إلى عامين، وهي تتمحور حول فتح باب الاستثمار الأجنبي يزيل الإلغاء “عقبة كبيرة” كانت تحول دون دخول الاستثمارات التجارية الأمريكية والدولية إلى سوريا. ومن المتوقع أن تتركز الاستثمارات القادمة، خاصة الخليجية والأمريكية، في قطاعات النفط والطاقة والغاز والعقارات.
إعادة بناء البنية التحتية والخدمات: من أهم الآمال المرجوة تحسين الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والاتصالات، والتي كانت محدودة بسبب العقوبات. وستوفر مشاريع إعادة الإعمار آلاف الوظائف في قطاعات البناء والصناعة والخدمات. إعادة الاندماج في النظام المالي العالمي حيث سيسهل رفع العقوبات حركة الأموال من وإلى سوريا، ويخفف من التشدد المفرط الذي كانت تتبناه المؤسسات المالية الدولية في التعامل معها. كما سيساهم في خفض تكاليف التأمين والامتثال القانوني للشركات.
كل هذه الابعاد تحددت بمجموعة من الشروط وآليات المراقبة لم يكن الإلغاء من دون ضوابط، بل رافقته شروط وآليات مراقبة غير ملزمة لكنها واضحة. يتعين على الإدارة الأمريكية تقديم تقارير إلى الكونغرس كل 90 و180 يوماً، تفصل فيها مدى التزام الحكومة السورية بشروط مثل مكافحة الإرهاب بالقضاء على تهديد تنظيم “داعش” والقاعدة، وإبعاد المقاتلين الأجانب عن المناصب العليا.
حماية الحقوق احترام حقوق الأقليات الدينية والإثنية وضمان تمثيلهم العادل. الاستقرار الإقليمي عدم القيام بأعمال عسكرية أحادية الجانب ضد الجيران، بما في ذلك إسرائيل. مكافحة الفساد والجريمة بتنفيذ خطوات فعالة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، والحد من إنتاج وتهريب المخدرات مثل الكبتاغون.
يمنح النص الرئيس الأمريكي صلاحية “إعادة النظر” في فرض عقوبات على أفراد في حال عدم الالتزام بهذه الشروط خلال فترتين متتاليتين من التقارير.
برغم من كل هذا الوضوح تام للعقوبات و تاثيرها و ابعاد رفع العقوبات لكن رغم الآمال الكبيرة، يواجه تحسين الوضع المعيشي للمواطن السوري تحديات جسيمة اولها هشاشة البنية الاقتصادية التي عانها الاقتصاد السوري من تدمير واسع خلال 14 عاماً من الحرب، حيث انخفض الدخل القومي من حوالي 60 مليار دولار عام 2011 إلى أقل من 12 مليار دولار عام 2023. ويعاني القطاع المصرفي من أزمة سيولة حادة وعزلة عن النظام المالي العالمي، ما يحتاج إلى إعادة تأهيل بنيوي. استمرار الفساد والبيروقراطية الذي ينظر لهو مراقبون أن التحدي الأكبر يكمن في ملف الفساد والمحسوبيات، الذي قد يفرغ أي تحسن اقتصادي محتمل من مضمونه إذا لم تتم معالجته. التقسيم الاقتصادي الداخلي باعتبار انهو لا تزال البلاد مقسمة اقتصادياً إلى مناطق نفوذ متعدسة (مثل إدلب وشمال حلب) تتعامل بعملات مختلفة (الليرة التركية والدولار)، ولم تُدمج بعد مع العاصمة دمشق مالياً واقتصادياً.
خطر تحول الاقتصاد إلى اقتصاد ريعي حيث يحذر خبراء من أن الاستثمارات المتوقعة قد تتركز في القطاعات الريعية (كالنفط والغاز والعقارات) لتحقيق أرباح سريعة، مما يهدد بتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد غير إنتاجي على المدى المتوسط والبعيد.
يدخل السوريون عام 2026 وهم يحملون آمالاً واسعة في تحسن حياتهم اليومية، بعد أن زال أحد أبرز مبررات تدهور الأوضاع المعيشية. ومع ذلك، فإن رفع العقوبات وحده ليس حلاً سحرياً. فالعقبات الهيكلية من بنية تحتية مدمرة وفساد مستشر وتقسيم داخلي، تضع الحكومة السورية الجديدة أمام “اختبار ثقة” حقيقي. النجاح في تحويل هذا الحدث السياسي إلى تحسن ملموس في حياة الناس، مرهون بقدرة السلطات على إصلاح المؤسسات، ومكافحة الفساد، ووضع خطط اقتصادية واضحة لاقتناص فرصة الاستثمار وإعادة الإعمار. وبين ترقب حذر وخشية من تكرار خيبات الماضي، يبقى السؤال الأبرز: هل سينعكس رفع “قيصر” فعلاً على رفاه المواطن السوري، أم سيظل مجرد حدث سياسي بلا أثر حقيقي؟
