رغم الانشغال بالأوضاع والحرب الدائرة في قطاع غزة، إلا أن الملف السوري لا يزال يحتل موقعاً هاماً ضمن الملفات المطروحة في كل الاجتماعات العربية والدولية. فسوريا، التي خاضت حرباً طويلة مع الإرهاب الدولي، بدأت تتنفس الصعداء رغم الحصار والعقوبات الغربية الأحادية المفروضة عليها خصوصاً بعد الانفتاح العربي عليها وعودتها إلى الجامعة العربية وحضورها اجتماعات القمة العربية للعام الثاني بعد انقطاع دام 12 عاماً.
الجهود التي تبذلها الحكومة السورية بالتعاون مع الدول الحليفة والصديقة لحل الأزمة في سوريا واستعادة الحياة الطبيعية والأمن والاستقرار في البلاد تسير في اتجاهات ثلاثة مترابطة. فمن جهة، تشكل منصة أستانا، التي تضم الأمم المتحدة إلى جانب الدول الضامنة الثلاث: روسيا وإيران وتركيا، مساراً ناجحاً لمعالجة تداعيات الحرب على سوريا والتواجد الأمريكي والتركي غير الشرعيين على أجزاء من الأراضي السورية. وهذا المسار شهد بعض التباطؤ بسبب الحرب في أوكرانيا وغزة وبسبب التعنت التركي ورفض حكومة أردوغان تنفيذ التزاماتها بإخلاء إدلب من الإرهاب.ومن جهة ثانية، فإن العلاقات بين دمشق وأنقرة لا تزال على حالها، إلا أن تراجع الحملات الإعلامية بين البلدين وتشابك المصالح ووصول المشروع الإخواني إلى حائط مسدود أمام صمود الشعب السوري خلق مناخات جدية للحوار بين الجانبين مع تراجع دور حزب العدالة والتنمية الإخواني الحاكم في تركيا. الأمر الذي تستفيد منه سوريا كما تستفيد من العلاقات التي تربط تركيا مع حليفيها الرئيسيين: روسيا وإيران.
ومن جهة ثالثة، قطعت العلاقات البينية السورية مع الدول العربية خلال العام الماضي بعد زيارتي السيد الرئيس بشار الأسد إلى جدة والرياض لحضور القمة العربية العادية والقمة الاستثنائية حول غزة. وتشكل مشاركة سوريا في القمة الـ33 في العاصمة البحرينية المنامة فرصة ثالثة لحل جميع الخلافات العالقة بين سوريا والدول العربية. وتعددت اللقاءات والاجتماعات بين المسؤولين في سوريا والسعودية على وجه الخصوص، ولأول مرة منذ 13 عاماً يقوم الحجاج السوريون بزيارة السعودية لأداء فريضة الحج، في مؤشر إلى أن الإجراءات العملية لإعادة الزخم إلى علاقات دمشق والرياض هي إجراءات حقيقية وليست من نسج الخيال. ولا يقتصر الأمر على السعودية، فالاجتماعات ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي والرياضي والثقافي والتجاري متواصلة بين سوريا ومعظم الدول العربية. وفي ذلك مؤشرات أيضاً على أن الحرب أصبحت وراء ظهور السوريين بانتظار استكمال مسار المصالحات والتسويات لإخلاء إدلب من الإرهاب وطرد المحتل الأمريكي الذي يسرق النفط والغاز والثروات ويدعم الإرهاب في البادية والانفصاليين في الجزيرة ويقوم بتدريب المرتزقة في قاعدة التنف لإطالة الحرب وزعزعة الاستقرار والأمن الذي يتحقق في سوريا.
كل هذا على الرغم من إصرار الولايات المتحدة وحلفاءها الإصرار على استمرار قطع العلاقات مع سوريا وتبني سياسة الترهيب لكل من يفكر في التعاون مع سوريا. لكن على ما يبدو، خير دليل على انهيار الهيمنة الأمريكية هي اتجاه الدول العربية لاستعادة العلاقات مع سورية بعد قطيعة طويلة، وعودة سوريا بالتدريج للمنصات العربية. فها هي تشارك كما في السابق وتشغل مكانتها في الساحة العربية.
بالإضافة إلى التطورات على صعيد التسويات السياسية مع تركيا والدول العربية وعودة المياه إلى مجاريها، تشهد الساحة الداخلية السورية حراكاً مكثفاً بعد انتخاب قيادة جديدة لحزب البعث الحاكم وفي ضوء التحضيرات الجارية لانتخابات جديدة لمجلس الشعب في الخامس عشر من تموز القادم يصار بعدها إلى تشكيل حكومة جديدة وسط تغييرات بنيوية وعميقة طرأت على المجتمع السوري الذي يواجه ظروفاً اقتصادية صعبة. وهي ظروف ناتجة عن تداعيات الحرب وعن التحولات الكبرى في طريقة الحياة وأسلوب العيش في سوريا وفق أنماط جديدة فرضتها سياسات اقتصاد السوق وتغول قوة رأس المال وظهور طبقة غنية في مقابل اجتهاد ومشقة عامة السوريين لتأمين لقمة عيشهم