المصالحة بين السيد الرئيس بشار الأسد والرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد سنوات من الجهود الروسية هي حديث الشارع السوري ووسائل الإعلام العربية والدولية رغم الأحداث الكبرى في أوكرانيا وغزة والانتخابات الأمريكية والإيرانية وصعود اليمين في فرنسا.
الرئيس بوتين قال لوزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال لقائهما في موسكو إن قضية الانسحاب التركي من سورية هي قضية وطنية وليست شرطاً سورياً. ولهذا خرج أردوغان يحلف ويقسم أنه لا يطمع بالأراضي السورية وأنه لن يتدخل بأي شأن سوري داخلي. وهذا جيد لأنه في بداية الأزمة أرسل وزير خارجيته أحمد داوود أوغلو ليفرض ستة وزراء أخوانيين فعاد كما عاد كولن باول قبله. وهذا فخر لنا سيذكره التاريخ لأننا انتصرنا، ولو سقط النظام لا سمح الله وتسلم الإخوان المجرمين عليكم أن تسألوا ماذا كان مصير المقاومة التي تهاجم إسرائيل من سبع جبهات بدعم من سورية وإيران؟ وعليكم أن تسألوا أين أردوغان اليوم وأين تركيا؟
لا شك أن روسيا تقرأ جيداً الأوضاع في المنطقة والعالم، ولهذا فإنها تستغل الاستقرار في سورية وتدفع باتجاه التقريب بين دمشق وأنقرة وفتح الحدود واستئناف العلاقات الدبلوماسية وفق خارطة طريق ميدانية وسياسية. ولدى موسكو خبرة واسعة في محاربة الإرهاب وتربطها بتركيا علاقات تسمح لها بقراءة الموقف التركي جيداً والتعاطي معه. وقد وجدت أن الأرضية لدفع العلاقات بين دمشق وأنقرة باتت مؤاتية بعد اجتماع وزراء دفاع سورية وروسيا وتركيا في موسكو في نهاية العام 2022 وبعد الاجتماع الرباعي الذي ضم وزراء خارجية ودفاع سورية وروسيا وتركيا وإيران قبيل الانتخابات التركية منتصف العام 2023. خلال تلك الانتخابات وبعدها، خلال الانتخابات البرلمانية في مارس الماضي، كانت العلاقات مع سورية تحدد اتجاهات الرأي العام التركي وكان الغضب يتصاعد جراء العداء التركي لسورية. وكادت المعارضة أن تقتنص الرئاسة من أردوغان فيما حققت المعارضة نتائج طيبة في الانتخابات التشريعية في مارس الماضي. ولكن سورية بقيت طوال السنوات الماضية منذ انطلاق الوساطة الروسية على الحياد ولم تأخذ موقفاً من الانتخابات التركية. ويبدو أن أردوغان اكتشف العلة والسبب في انخفاض شعبيته فقرر أن يغير المسار ويعيد حساباته. وذلك بعد أن وصلت نيران الانتخابات التي أعلنت عنها ميليشيا قسد في المناطق التي تسيطر عليها في منبج وعفرين والرقة والحسكة وشرق دير الزور، الأمر الذي جعل تركيا والدولة السورية تشعران أن هذه النيران ستشعل تركيا وسوف تؤدي إلى تقسيم سورية. جاءت الوساطة الروسية بين البلدين ووصلت الرسالة السورية والتحذيرات التركية من القيام بعملية عسكرية واسعة لمنع إجراء الانتخابات، وشعرت أمريكا أنه لا مناص من إلغاء الانتخابات، فأوعزت إلى ميليشيا قسد فأعلنت تأجيل الانتخابات إلى أغسطس القادم. وهذا التأجيل هو مقدمة للإلغاء لأنه غير مسموح أبداً بقيام كيان كردي انفصالي في سورية وتجربة العراق لا تزال ماثلة في الأذهان عندما اجتمعت الدول الأربع: سورية والعراق وإيران وتركيا على منع إجراء انتخابات في إقليم كردستان العراق في العام 2017 واضطرت الولايات المتحدة إلى التراجع عن دعمها للانتخابات. واليوم ما يحصل في سورية ستكون نتائجه خطيرة وسيؤدي إلى حرب كبيرة إذا أصرت ميليشيا قسد على إجراء الانتخابات.
أردوغان استوعب أن الشارع التركي مع إعادة العلاقات مع سورية وأن الإرهاب على الحدود السورية التركية يشكل خطراً على تركيا وسورية على حد سواء. ولهذا سارع ليكفر دفعة واحدة عن ذنوبه التي لا تغتفر إلا بمنطق السياسة. فإذا به يخرج بخطاب للمصلين كما لو أنه يلقيه في الجامع الأموي عام 2009، خطاب إسلامي أخوي إنساني عاطفي خطاب لا يقال إلا للحلفاء والأشقاء والأصدقاء وليس مجرد كلمات قالها أمام المصلين: لقد التقيت في السابق مع الرئيس الأسد وبالتالي من الممكن أن نلتقي مجدداً في المرحلة المقبلة.
تصريحات أردوغان ووزير خارجيته هاكان فيدان الذي يحظى باحترام القيادة في سورية منذ كان مديراً للاستخبارات التركية وكان يحاول تغيير المسار، وهو الخبير والمطلع على خفايا الأوضاع الأمنية ليس في سورية وإنما في العراق وإيران والمنطقة. وهو أكثر العارفين بخفايا ومشاريع الخطة الأمريكية الإرهابية وخطط حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي الذي يعد أحد فروعه في سورية لتقسيمها. الوزير فيدان منذ استلامه الخارجية نجح بالتعاون الوثيق مع روسيا بوضع خارطة طريق ميدانية وسياسية ليس لتحسين العلاقات بين دمشق وأنقرة فحسب، بل لإعادة اللاجئين وفتح الحدود وضرب الإرهاب على طرفي الحدود. وإنما لوضع خارطة طريق كاملة لاستقرار المنطقة بالتعاون الوثيق بين روسيا وإيران وتركيا وسورية. فالوزير هاكان فيدان شخص صادق ومحترم وهو يعلم أن أردوغان أضعف بسياساته تركيا وهذا ما أدى إلى تقدم المعارضة التركية التي عارضت بشدة كل سياسات أردوغان ضد سورية وكانت تنشر على مدى سنوات الأزمة في سورية في وسائل إعلامها وصحفها الصور والتقارير والأخبار الموثقة حول تجييش الإرهابيين ضد سورية وتعرض التقارير عن دخول الإرهابيين من شيشان وإيغور وأفغان وغيرهم من ثمانين دولة إلى سورية عن طريق الحدود التركية المفتوحة. وبالطبع هؤلاء الإرهابيون يقاتلون الجيش التركي اليوم في الباب وعفرين ومعابر باب الهوى وباب السلام وفي كل المناطق التي يسيطر عليها الأتراك وما يسمى الجيش الوطني ويرفضون المصالحة السورية التركية ويعملون على تعطيلها ولكن سبق السيف العذل.
أردوغان ربما يعيش حالة تأنيب الضمير ولم يبق غيره من بين عشرات القادة والرؤساء والأعداء الأجانب الذين جندتهم أمريكا لخدمة مشروعها الإرهابي في سورية. وهو أشبه براسكولينكوف بطل رواية الجريمة والعقاب لدستويفسكي الذي لم يستطع إخفاء جريمته أمام نفسه. لذلك ذهب راسكولينكوف إلى المحكمة واعترف بالجريمة مع أن أحداً لم يكن يطارده. كذلك أردوغان يحاول منذ سنوات أن يزور سورية وهو يحوم حول جريمته ولا يريد أن يموت قبل أن تغفر له سورية. وهو يعود إلى سورية والمصالحة مع الرئيس الأسد دون أي اعتبار للمكان الذي ستجري فيه المصالحة، المهم أن الرجل يريد أن تتصدر الصحف صورته مع الرئيس الأسد. وهو مولع بوسائل الإعلام وبالأحداث التي تضعه في مقدمة نشرات الأخبار. وسيكون ذلك حدثاً صادماً بالطبع للجمهور، ولكن ربما يصح توصيفها بصدمة خفيفة وإيجابية وفيها متعة الحلاوة للمنتصرين ومرارة الهزيمة للإرهابيين. ومهما كانت ظروف المصالحة ومكانها وأجوائها فإنها ستكون حدثاً دولياً كبيراً لعدة أشهر وربما تغطي على الانتخابات الأمريكية الهوجاء. ولا شك أن مكان الحدث أو المصالحة بين الأسد وأردوغان سيكون له دلالة وأهمية ومنطق الأشياء أن تكون المصالحة في موسكو، لا في الإمارات العربية المتحدة ولا في الرياض ولا في مكة ولا في أستانا ولا في طهران ولا حتى في بغداد.
فالوساطة روسية من بابها إلى محرابها ومع أن روسيا لم تكن متحمسة في البداية لهذه الوساطة، ولكن التطورات في أوكرانيا والمنطقة جعلتها تدفع بزخم باتجاه إعادة الاستقرار إلى سورية لأن ذلك أولوية بالنسبة لروسيا. وهي تتحضر لمرحلة جديدة تتبوأ فيها مع الصين المكانة التي تستحقها بعد انتصاراتها على الإرهاب في سورية وعلى أوكرانيا وعلى العقوبات والحصار الغربي والأطلسي. وعدد العقوبات الغربية على روسيا بلغ أكثر من عشرين ألف عقوبة في المجالات الاقتصادية والسياسية والتجارية والعلمية والرياضية والفنية والاجتماعية، وحتى الطيور بين البلدان الغربية والروسية تم منعها من العبور.
لقاء أردوغان وبوتين على هامش قمة شنغهاي في أستانا في الثالث من يوليو وترحيب أردوغان الحار بزيارة بوتين إلى أنقرة قريباً سيعطي زخماً للوساطة الروسية. ولا ننسى أن أردوغان قال قبل الانتخابات الرئاسية قبل عام في يوليو عام 2023 إنه طلب من الرئيس بوتين التوسط بينه وبين الرئيس الأسد. وقبل لقاء القمة التركية الروسية في أستانا قال الناطق باسم الكرملين ديميتري بيسكوف إن الملف السوري سيكون على طاولة الحوار بين الرئيسين. فالرئيس بوتين الآن بحاجة إلى تصدير صورة انتصار معنوية وهو يجمع حليفين موثوقين لروسيا كما جمعت الصين السعودية وإيران. ولهذا فإن حماسة أردوغان للمصالحة لا يجب أن ينظر إليها إلا بالخير. والله سبحانه وتعالى يقول: “فإن حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها” صدق الله العظيم.