اجتماعان لمجلس الأمن لهما دلالات خاصة ترأسهما سيرغي لافروف، رئيس الدبلوماسية الروسية، متحديًا بذلك الغرب كله في طرح ملفين: فلسطين والنظام العالمي الجديد. فهو لم يأتِ إلى واشنطن ليطرح قضية أوكرانيا ولا ليطرح الدعم الغربي الخطير لنظام كييف، وإنما طرح القضية الفلسطينية بما لها من وزن كقضية مركزية، ليس فقط في المنطقة، وإنما على مستوى العالم، ليؤكد من جديد أن القضية الفلسطينية ستبقى ميزان العدالة وأولوية بالنسبة لروسيا من خلال دعوتها لإقامة دولة فلسطينية وتنفيذ قرارات مجلس الأمن، وخاصة القرارين 338 و242، وضرورة عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وإعادة الجولان السوري المحتل إلى سوريا.
المعركة التي يقودها الوزير لافروف، وهو يعرض السياسات الروسية على المسرح الدولي والمحافل الدولية على كل المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية، هي بمثابة معركة مستمرة منذ استلام الرئيس بوتين السلطة في العام 2000. إنها معركة دبلوماسية وسياسية تهدف إلى إعادة روسيا الاتحادية إلى مكانها الطبيعي والذي يتلاءم مع ما أنجزته خلال مواجهة الإرهاب في سوريا وما أنجزته خلال الحرب في أوكرانيا. روسيا تمارس دورها اليوم كقوة عظمى في مواجهة الغرب الاستعماري بقيادة الولايات المتحدة، التي ترفض الإقرار بوجود القوى الدولية الصاعدة كروسيا والصين وإيران، وترفض الحوار معها وتستخدم الحروب والأزمات والعقوبات والحصار لمنع هذه القوى من منافستها. أخطر ما أعلنته واشنطن كان خلال قمة الناتو في واشنطن، عندما اعتبرت روسيا والصين بمثابة عدوين للحلف.
ما يميز الدبلوماسية الروسية هو أنها تعطي “ما لقيصر لقيصر وما لله لله”. ما تقوم به هذه الدبلوماسية منذ بدء الحرب على سوريا يؤكد أنها تحقق نجاحات كبيرة نابعة من قوة الحجة والمنطق والمصداقية والثقة التي يتمتع بها الرئيس بوتين والوزير لافروف، والتزامهما بالمواثيق والمعاهدات وبتطبيق القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة. الكلام الذي يقوله الرئيس بوتين ووزير خارجيته لافروف يلتزمان به، على عكس الساسة الغربيين الذين يقولون ما لا يفعلون. يقولون شيئًا في النهار ويمحونه في الليل، ويكذبون على شعوبهم وعلى العالم. ما حصل في غزة من مجازر فضح بشكل كبير هذه الازدواجية في المعايير وكشف زيف السياسة الأمريكية والفرنسية والبريطانية والألمانية. لم تصمد هذه السياسات أمام مشاهد الأطفال الشهداء المضرجين بالدماء في قطاع غزة الذي يتعرض لحرب إبادة جماعية من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلية.
من المؤكد أن الغرب بات يخشى قوة الحجة الروسية واللغة الروسية والأدب الروسي والقوة الروسية. قيام الوزير لافروف بترؤس مجلس الأمن والمواضيع التي طرحها، والتي تمس بشكل مباشر هموم العالم كله، مثل موضوع فلسطين وميثاق الأمم المتحدة والعدالة الدولية، يعد تحديًا للولايات المتحدة، التي حاولت مندوبتها في المجلس التشويش وطرح مواضيع من خارج جدول الأعمال. ولكن لافروف اختصر كل الجدالات وأكد أن بلاده ستعمل كل ما في وسعها لحل كل القضايا، وبخاصة الوضع في أوكرانيا وفق مبدأ توازن المصالح.
ترسم الدبلوماسية الروسية، باعتمادها على القانون والقيم الإنسانية والعدالة، نهجًا يحفز شعوب العالم على الانضمام إليها. وفي المقابل، تكشف هذه السياسة القوية المستقيمة والمبنية على أسس واضحة حقيقة الغرب وممارساته وتصرفاته المتوحشة واللاإنسانية. اليوم، تنظر كل شعوب العالم بإعجاب للمواقف الروسية وللسياسة الخارجية الروسية. وقد وجدت الشعوب والأمم التي تتعرض للعدوان في هذه السياسة المتوازنة والعقلانية ضالتها. لهذا، شاهدنا في عدد من الدول الأفريقية الفرانكوفونية كيف رفع المتظاهرون العلم الروسي في النيجر وأحرقوا العلم الفرنسي والأمريكي، وكيف أن الروس وقفوا مع سوريا ضد الغرب والإرهاب، كما يقفون اليوم مع أطفال غزة ضد كيان الاحتلال الإسرائيلي والوحشية الإسرائيلية ضد أبناء قطاع غزة والضفة الغربية. ودعوا لإقامة دولة فلسطينية، وهذا الموقف الروسي من القضية الفلسطينية يشكل دعمًا معنويًا للشعب الفلسطيني ويشجع الفلسطينيين على مواصلة كفاحهم ضد كيان الاحتلال الغاصب.
لهذا، نجد روسيا الاتحادية اليوم تقف دائمًا في الخندق المقابل للدول الغربية، كما يحصل في قطاع غزة اليوم. حيث أكد وزير الخارجية الروسية خلال ترؤسه جلسة مجلس الأمن ضرورة وقف إطلاق النار في قطاع غزة بعد مضي 287 يومًا من الحرب المتواصلة، وحمّل الولايات المتحدة المسؤولية عن تدهور الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط بسبب دعمها لكيان الاحتلال الإسرائيلي، مؤكدًا أنه في حال توقفت الولايات المتحدة عن دعم إسرائيل سوف تتوقف إراقة الدماء. ودعا إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
عندما يخصص رئيس الدبلوماسية الروسية فلسطين باجتماع في مجلس الأمن، ويخصص أيضًا ميثاق الأمم المتحدة وضرورة المحافظة عليه باجتماع آخر خلال وجوده في نيويورك، فإن هذه رسالة واضحة للغرب مفادها أن روسيا تترك الوضع في أوكرانيا للميدان حتى يفهم الغرب ويتأكد من استحالة هزيمة روسيا.
ألتزمت روسيا الاتحادية على نفسها منذ استلام الرئيس فلاديمير بوتين السلطة أن تتحمل المسؤولية وأن تقف في وجه الهيمنة الغربية وتدافع عن السلام العالمي والقانون الدولي، بعد أن اعتقد الغرب أن انهيار الاتحاد السوفييتي في العام 1991 كان بالنسبة له نهاية الصراع وربما نهاية التاريخ.