ما إن بدأت حرب غزة الأخيرة بعد هجوم حماس في 7 تشرين الأول، سارعت الدول الغربية لإدانة حماس والدفاع عن إسرائيل، وتبرير وحشية العدو الإسرائيلي بأنه حق مشروع في الدفاع عن النفس.
حق مشروع في تدمير المشافي، حق مشروع لقتل الأطفال، حق مشروع لهدم المنازل والمساجد، مواثيق الأمم المتحدة؟ لا، لم نسمع بها، فقد تعرضت إسرائيل لهجوم.. قوانين الحرب؟ قوانين الإنسانية؟ لا لا، هذا أمر آخر هنا، فإسرائيل تعرضت لهجوم على يد حماس. إدانة إسرائيل في مجلس الأمن؟ مستحيل! لا، هذا كله حق مشروع للدفاع عن النفس. فهناك أرواح ثمينة، وهناك أرواح لا قيمة لها. أكثر من 10 آلاف طفل قتلوا؟ هذا ناهيك عن النساء والشيوخ… بالطبع، هذا أمر سيء… لكنها ضريبة الحرب، خسائر مصاحبة.
كان كله كما هو.. الغرب لا يسمع ولا يرى الوحشية، لكن.. الانتخابات الأمريكية على الأبواب. “الجد الديمقراطي” بدأ يرى انخفاضًا في شعبيته بين الناخبين المسلمين. وهو من الأساس مواقفه في هذه الانتخابات ليست بالقوية، فجميع المؤشرات الرئيسية في الولايات المتحدة أصبحت أسوأ مما كانت على عهد سلفه، واليوم منافسه في الانتخابات دونالد ترامب.
قد يبدو أن ضمير أمريكا بدأ يُصحو.. ولاحظوا أخيرًا أن الخسائر بين المدنيين الفلسطينيين مهولة، وأن وحشية العدوان الصهيوني من الصعب إخفاؤها. لكن لا مكان للإنسانية والضمير هنا إطلاقًا.. الأمر كله بالانتخابات المقتربة والسعي للتقرب من الناخبين المسلمين. بدأت محاولات الإدارة الأمريكية لتهدئة المجرم نتنياهو المتعطش للدماء، والذي لا خطوط حمراء لنظامه، فمن هنا جاءت المحاولات الأمريكية لتهدئة الوضع ووقف إطلاق النار ومحاولات ثني نتنياهو عن اجتياح رفح.
لكن نتنياهو نفسه بقائه في السلطة متعلق بخوض الحرب. متى ما انتهت الحرب ستفتح الدفاتر مرة أخرى، فهناك قضايا فساد كبيرة ضده وغيرها من الأشياء التي يسعى اليوم لإبقائها مغلقة بتمديد الحرب لأبعد درجة ممكنة. من هنا التصعيد المستمر والعمليات الاستفزازية في سوريا ولبنان، وحتى قصف مبنى القنصلية الإيرانية واغتيال قائدًا للحرس الثوري الإيراني.
بايدن يرى في هذه التصرفات في المرحلة الراهنة (مرحلة ما قبل الانتخابات) خطرًا على نفسه، فالولايات المتحدة مضطرة لمساندة إسرائيل وفقًا للمعاهدات الدولية بينهما، ودخول الولايات المتحدة حربًا في هذه المرحلة الحرجة اليوم أمر ليس بوقته على الإطلاق. فلن تكون هذه الحرب سريعة وحاسمة، بل ستكون حرب استنزاف طويلة. خير مثال على ذلك القصف الاستعراضي لليمن لما سموه “بمواقع الحوثيين”. هل أدى ذلك لتأمين حركة السفن لإسرائيل؟ لا. ولن تنجح عمليات القصف بين الفينة والآخرى في تأمين المضيق.
عمومًا، الولايات المتحدة حاليًا في مأزق، فقد بدأت حربًا معلنة على روسيا من خلال مساندتها لنظام كييف النازي، وهذا أمر يتطلب إمكانيات عسكرية كبيرة، والتي بجميع الأحوال مهمتها واحدة: إبطاء التقدم الروسي، لكن من المستحيل أن توقفه. ولا تنسى حربها الباردة مع الصين من خلال قيامها باستفزازات في تايوان، والآن إسرائيل… ما إن بدأ العدوان الإسرائيلي على غزة انخفض الدعم الأمريكي لأوكرانيا أضعافًا مضاعفة وكاد أن يتوقف كليًا، وانعكس هذا الأمر على ساحة المعركة على الفور. الولايات المتحدة لم تعد بعظمتها وهيبتها، أما “الحليف المقرب” نتنياهو انفلت ويحاول إجبار الولايات المتحدة على حرب كبيرة في الشرق الأوسط، والتي هي أساسًا قد تؤدي لانهيار إسرائيل نفسها، من المستبعد أن تتمكن الولايات المتحدة من خوض حرب متعددة الجبهات. فإن زجت قوتها في الشرق الأوسط خسرت أوكرانيا، والصين لن تقف مكتوفة الأيدي وستستغل الفرصة لضم تايوان، ناهيك عن غيرها من نقاط التوتر حول العالم.
لكن من الأمور الأخرى التي كشفت “القيم الغربية” والديمقراطية على حقيقتها، فهي ازدواجية المعايير. هجوم حماس – إرهاب. هجوم إسرائيل – حق مشروع في الدفاع عن النفس. هجوم روسيا – عدوان، الإرهاب الأوكراني – حق مشروع في الدفاع عن النفس. هجوم إيران – عدوان، قصف إسرائيل لسوريا – حق مشروع في الدفاع عن النفس.
إغلاق المكاتب الإعلامية الروسية في دول الغرب وحذفها من على جميع المنصات؟ محاربة للدعاية الروسية. إغلاق مكاتب الإعلام الغربي في روسيا؟ تضييق ومحاربة حرية الرأي والتعبير.
الرياضة يجب أن تكون بعيدة عن السياسة.. هكذا يقولون. لكن ماذا عن منع روسيا وبيلاروس من جميع الفعاليات الرياضية العالمية؟ أنتم لا تفهمون، هذا أمر آخر. ماذا عن منع إسرائيل من الفعاليات الرياضية؟ عشرات الآلاف من القتلى بين المدنيين، عدوان… لا.. إسرائيل تدافع عن نفسها، هذا أمر آخر، ويحق لها المشاركة في جميع الفعاليات وأساسًا الرياضة يجب أن تكون بعيدة عن السياسة. وقس على ذلك.
مثال منذ أيام.. هل تمت إدانة العدوان الصهيوني على القنصلية الإيرانية بدمشق؟ طبعاً لا! لكن ها هي أمريكا تجمع مجلس الأمن عقب الهجوم الإيراني على إسرائيل سعياً منها لإدانتها. لكن كما وصفه المندوب الروسي الدائم في مجلس الأمن نيبيزا، على أنه “عرض للنفاق وازدواجية المعايير يكاد يكون مخجلاً”.
يمكنني طرح أمثلة عن ازدواجية المعايير والنفاق ولن يكفيني كتاب كامل لهذا الأمر. لكن يبقى هنا السؤال.. إلى متى كل هذا؟ إلى متى سيبقى لدينا أناس “نخب أول” وأناس “نخب ثاني وثالث”؟ الجواب: طالما الدول المستضعفة صامتة عن هذا سيبقى الأمر كذلك.
يبقى سؤال المقال مفتوحاً.. هل ستكون نهاية هيمنة أمريكا العالمية على يد نتنياهو؟ فنتنياهو أشبه بالانتحاري، وهو مستعد لإغراق الإقليم كله في الدماء من أجل البقاء في السلطة.