لم يصل الاستهتار الأمريكي بالقوانين الدولية وبالحياة الإنسانية إلى هذا المستوى في معظم المراحل السابقة. وما الهجوم الأمريكي على المنشآت النووية الإيرانية في نطنز وفوردو وأصفهان بأقل من الهجوم على هيروشيما في الحرب العالمية الثانية، إلا أن إخلاء المناطق النووية من السكان كان كافياً ليخفف من وقع الهجوم الذي استخدمت خلاله أمريكا أكثر من ثمانين طناً من المتفجرات.
ولا يعني الرئيس ترامب الذي مارس الخداع والتضليل عبر إعطاء إيران مهلة أسبوعين إلا أنه يريد أن يدخل التاريخ ليس كتاجر كما يظنه البعض وهو يعقد الصفقات في أوكرانيا والسعودية، بل يريد أن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه كرجل حرب يغير مجرى التاريخ نفسه، ويعيد إلى بلاد العم سام هيبتها من جديد بعد أن أخذ التنين الصيني والدب الروسي وحتى إيران نفسها بعض هذه الهيبة بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان والعراق، حيث ظن البعض أن أمريكا ستنكفئ إلى الداخل وتوقف حروبها ضد الآخرين…
ما يثير الدهشة أكثر من القصف الأمريكي ذاته على المنشآت النووية الإيرانية هو طريقة تفكير ترامب وتوقيت هذه الضربات وهذا الهجوم، حيث كان العالم كله يترقب نتائج الجهود لوقف الحرب بين إسرائيل وإيران قبل أن يفكر ترامب بإشعال نارها من جديد بعد أن فشلت إسرائيل في تدمير منشآت إيران المحصنة في نطنز وفوردو وأصفهان. وكأن ترامب ينتظر هذه اللحظة بعد أن أدرك أيضاً أن إيران نجحت في امتصاص كامل الهجمات الإسرائيلية، كما نجحت دبلوماسيتها النشطة في تعرية الموقفين الأمريكي والإسرائيلي، حيث أدانت معظم دول العالم الهجوم الإسرائيلي على إيران والتواطؤ الأمريكي معه.
كما أثبتت إيران قدراتها العسكرية وهي توجه صواريخها بدقة على أهداف ومنشآت عسكرية إسرائيلية دون أن تستهدف المدنيين في تل أبيب وحيفا وبئر السبع. الصراخ الإسرائيلي ونجاح إيران في كشف هشاشة إسرائيل ربما كانت أيضاً وراء قرار الرئيس ترامب بدخول الحرب ليس إلى جانب إسرائيل، وإنما دخولها بشكل منفرد للقول لنتنياهو إن أمريكا فعلت ما يجب عليها فعله، وإنها قامت بالدفاع عن إسرائيل وأوفت بتعهداتها وقصفت مجمع فوردو بأحدث ما لديها من أسلحة، واستخدمت القنبلة الحارقة الخارقة للتحصينات التي لم تستخدمها إلا في تورا بورا وفي اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله.
لم يعد باستطاعة نتنياهو والصهاينة أن يوجهوا العتب إلى ترامب، فقد قام بالمهمة كاملة. ولكن السؤال: كيف سيكون الرد الإيراني؟ وفي أي اتجاه؟ هل ستحارب إيران الولايات المتحدة أم ستكتفي بمواصلة الهجمات على المدن والمستوطنات الإسرائيلية؟ وهل ستبقى الاصطفافات الدولية على حالها أم أن الهجوم الأمريكي سيغير المعادلات والحسابات وسيشجع إسرائيل على التمادي في قصف إيران؟ وكيف سيكون موقف الدول الإسلامية التي كانت مجتمعة في إسطنبول عندما قرر ترامب الهجوم على إيران دون أن يعير أي اهتمام لمواقف هذه الدول؟ كيف ستكون ردود فعل الاتحاد الأوروبي التي أدانت الهجوم الإسرائيلي في الثالث عشر من حزيران، كما أدانت الهجوم الأمريكي في الثاني والعشرين من حزيران؟
ثلاثة أزواج من القاذفات الأمريكية بي-2، وهي تحتاج إلى عشرات الطائرات لتأمين وصولها إلى الهدف، وعشرات صواريخ توماهوك، وحملة تضليل قادها الرئيس ترامب بنفسه. واليوم يجتمع مجلس الأمن وتدين الدول العدوان، ولكن لا أحد ينتظر أي قرار من هذا المجلس لأن أمريكا تتحكم فيه وتقيده. ومع إعلان إيران أنها سترد على الضربات الإسرائيلية والأمريكية، إلا أن طبيعة القوة التي قامت بالهجوم على إيران والاتصالات المكثفة التي تقوم بها طهران تشير بوضوح إلى أن القيادة الإيرانية تسعى لوقف الحرب، وهي تشترط للعودة إلى المفاوضات وقف الهجمات الإسرائيلية.
ومع أن التجربة الماثلة أمامنا تقول إن نتنياهو لن يوقف الحرب لأن غزة ماثلة للأذهان وهو يمعن في قتل أطفالها ويتلذذ بموت شيوخها ونسائها، فكيف الحال في إيران؟ إن العالم اليوم أمام لحظة صعبة وخطيرة، طالما أن ترامب الذي يفتقد إلى المصداقية وإلى الحكمة أصبح اليوم يمتلك مفاتيح الحرب والسلام في العالم. ولا بد من أن تلعب روسيا التي سيزورها وزير الخارجية الإيراني عباس عرقجي والصين دوراً هاماً لإعادة المفاوضات، وخاصة بعد المشاورات المكثفة بين الصين وروسيا خلال الأيام الماضية التي سبقت الهجوم الأمريكي.
وبدون ذلك، فإن الكراهية التي يعيشها الصهاينة منذ السابع من أكتوبر عام 2023 ستحرق المنطقة والعالم، ولن ينفع العرب والدول الإقليمية الاكتفاء بإدانة هجوم بربري وحشي كالذي قامت به أمريكا في الثاني والعشرين من حزيران ضد إيران… والذي جعل العالم ينسى هجوم إسرائيل قبل ذلك بتسعة أيام.
ويبدو أن لقاء عرقجي بالرئيس بوتين في موسكو والتنسيق بين الصين وروسيا ودعوة الاتحاد الأوروبي لعدم التصعيد ربما يكون طوق النجاة للمنطقة. فبعد أن نجحت الدبلوماسية الإيرانية النشطة في امتصاص الضربات الإسرائيلية، كانت الدبلوماسية الإيرانية النشطة مع أمريكا ذاتها ومع الروس ومع العالم الإسلامي تكاد تصل إلى وقف الحرب، إلا أن العلاقة الخاصة بين نتنياهو وترامب والتنسيق المشترك بينهما منذ بدء الهجوم الإسرائيلي على إيران في صبيحة الثالث عشر من حزيران حتى موعد الهجوم الأمريكي في صبيحة الثاني والعشرين من حزيران، أعادت بعض هذه السطوة الأمريكية وجبروتها بعد أن كان البعض يعتقد أن هذه السطوة وهذا الجبروت يتقلص أمام صعود الدول الأخرى ونموها المذهل.
والرئيس ترامب ليس لديه شريعة أعلى من شريعة المال والصفقات، فمن أجل الحصول على المال يخرب مالطا وكل قوانين الكون. ولم يكن أحد في العالم يشك بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سيهاجم إيران للقضاء على برنامجها النووي بعد فوزه بالانتخابات للمرة الثانية، وكان الجميع يتساءل متى سيحصل ذلك وكيف؟ الطامة الكبرى أن ترامب كان على موعد مع الرئيس الروسي، وكانت إسرائيل تقصف إيران منذ الثالث عشر من حزيران عندما أمر بثلاثة أزواج من قاذفات بي-2 التي تحمل… وكان الإيرانيون يجتمعون مع الأوروبيين في جنيف وفي إسطنبول مع وزراء خارجية الدول الإسلامية… وكان يمكن أن يحدث الهجوم الأمريكي بالتزامن مع الضربات الإسرائيلية في صبيحة الثالث عشر من حزيران الجاري، ولكن الولايات المتحدة أرادت أن تخوض المعركة لوحدها مع إيران بشكل منفصل عن إسرائيل، وهذا ما أرادته لأن الرئيس الأمريكي لا يحتاج المرء إلى الكثير من التفكير ليفهم ماذا يجري على الجبهة الأمريكية الإيرانية.