ما كانت النيران الأمريكية والصواريخ الإسرائيلية لتخمد لولا تدخُّل روسيا الحاسم، وما كان لجنون الحرب أن يتوقف لولا أن الكرملين قرر أن زمن الفوضى قد انتهى، وأن على العالم أن يصغي لصوت العقل لا لصوت القنابل الذكية والقمبلة الحارقة الخارقة.
فبعد الضربات المدمرة التي استهدفت منشآت فوردو ونطنز وأصفهان، وبعد أن انكشفت الحسابات الأمريكية الساعية لتدمير ما تبقى من السيادة الإيرانية، لم تكن هناك دولة قادرة على إعادة خيوط التوازن إلى نصابها سوى روسيا. روسيا التي لم تتورط في الخطابات بل تصدرت الحدث بالفعل والدبلوماسية والقرار.
في السابع عشر من كانون الثاني، وقّع الرئيس فلاديمير بوتين مع نظيره الإيراني اتفاقاً شاملاً لعشرين عاماً، لم يكن اتفاق مصالح فقط، بل كان إعلاناً واضحاً بأن روسيا حامية الأمن الإقليمي وضامنة التوازن الاستراتيجي في الشرق الأوسط، في وقت غاب فيه صوت العقل الأميركي وتحوّلت واشنطن إلى مصدر للرعب لا للمفاوضة.
وعندما حاولت واشنطن تكرار مشهد هيروشيما بطريقةٍ أكثر عصرية وأقل إنسانية، كانت موسكو وحدها من تصدت لهذا الجنون، وأعلنت من فوق منابر الأمم المتحدة وعلى لسان لافروف وبوتين وأندريه بيلوسوف أن ما يحدث في إيران عدوان سافر وخرق فاضح لكل القوانين الدولية.
لم تكتف روسيا بالإدانة، بل قادت حملة اتصالات دبلوماسية غير مسبوقة: في مسقط، في بكين، في إسطنبول، في جنيف، وفي طهران نفسها. لم تبقَ عاصمة إلا وطرقها الكرملين ليمنع انزلاق المنطقة إلى الجحيم. وبينما كان البعض يترقب رد إيران، كانت موسكو تمهّد الأرض لوقف التصعيد وتُخرج أطراف النزاع من عنق الزجاجة.
أدرك الإيرانيون أن ترامب، في جنونه الانتخابي، مستعد لإشعال العالم من أجل أن يُعاد انتخابه بطلاً للحرب. وأدركت روسيا أن أمريكا لم تعد تبحث عن حل، بل عن انفجار. ولهذا جاء لقاء الرئيس بوتين بالوزير عباس عرقجي في 23 حزيران علامةً فاصلة: موسكو ستتدخل، وستخمد النار، وستُعيد واشنطن إلى طاولة الواقع، لا طاولة الخيال العسكري.
وفي اللحظة التي تجاهل فيها ترامب العالم الإسلامي المتجمع في إسطنبول، وفيما كانت أوروبا تُدين الغارات الأمريكية، كانت موسكو تعمل بصمت، تسحب فتيل الحرب، وتبني جسور العودة إلى المفاوضات.
فهل من دولةٍ في العالم استطاعت أن تجمع بين الصرامة والحكمة، بين الشجب والفعل، بين الحضور والمبادرة كما فعلت روسيا؟ وهل من أحد يستطيع إنكار أن طوق النجاة جاء من موسكو لا من نيويورك، ومن فلاديمير بوتين لا من دونالد ترامب؟
أجل، روسيا هي من وضعت الخط الأحمر، وهي من منعت الحرب، وهي من قالت بوضوح: لا سلام في المنطقة دون توازن، ولا توازن دون صوت روسيا.