
التوقيع على اتفاقية انضمام سورية إلى التحالف الدولي لمحاربة داعش… معالجة السم بالسم وفتح المعركة على المقاتلين الأجانب…
ليس استعجال إدارة ترامب الجمهورية لتطبيع العلاقات مع دمشق وتغيير خارطة الشرق الأوسط والتحالفات فيه بأقل من جموح حكومة الشرع باتجاه واشنطن لاكتساب الشرعية…
فما بين جلسة مجلس الأمن حول سورية والتي تم خلالها رفع اسم الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير الداخلية أنس خطاب من قوائم الإرهابيين الدوليين.. وبين القمة التاريخية في البيت الأبيض بين ترامب والشرع في العاشر من تشرين الثاني.. كانت أربعة أيام مليئة بالنشاط والتطورات الهامة على الساحتين السورية والدولية. حيث شارك الرئيس الشرع في البرازيل في قمة المناخ، وكان هناك داخل القمة مهرجان من القمم السورية مع عدد كبير من القادة، من بينهم رئيس وزراء بريطانيا ستارمر والرئيس الفرنسي ماكرون.
وفيما كان الشرع يسجل حضوراً لافتاً في قمة المناخ، كانت وسائل الإعلام العربية والدولية تحلل وتناقش قرار مجلس الأمن الذي قدمته الولايات المتحدة وضغطت على معظم الدول الأعضاء حتى تم تبنيه بالإجماع (14 صوتاً وامتناع الصين عن التصويت)… مع أن القرار تم تعديله عدة مرات حتى وافقت عليه روسيا والصين، وذلك لأن الإرهابيين الصينيين والروس من الإيغور والشيشان يشكلون كتلة كبيرة من المقاتلين الأجانب الذين يعتبرون إرهابيين دوليين يؤمنون بعقيدة الجهاد العابرة للحدود، ويعتبرون بدرجة معينة أشد خطورة من داعش على الأمن والسلام الدوليين وعلى سورية بشكل خاص، طبعاً مع مقاتلين يحملون جنسيات مختلفة من القارات الثلاث…
وكما شغل القرار الأممي الذي صدر عن مجلس الأمن العالم، كذلك كانت قمة البيت الأبيض بين ترامب والشرع محط اهتمام إعلامي كبير، بالنظر إلى أن القمة السورية الأمريكية في واشنطن هي الأولى منذ الاستقلال إذا استثنينا اللقاءات التي عقدها الرئيس الأسبق حافظ الأسد، وكان أبرزها لقاء جنيف بين حافظ الأسد وبيل كلينتون. وكان موضوع السلام مع إسرائيل يشكل عقدة حقيقية أمام تطور العلاقات السورية الأمريكية، حيث كانت سورية تطالب بعودة الجولان السوري المحتل وعودة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ولكن إسرائيل كانت ترفض ذلك وفشلت القمة السورية الأمريكية بين حافظ الأسد وكلينتون في العام 1994 في جنيف. وكانت جنيف منتصف المسافة بين دمشق وواشنطن. وكانت فترة حكم بشار الأسد حافلة بالتوترات بين دمشق وواشنطن… ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، وصلت العلاقات السورية الأمريكية إلى الحضيض، ووقفت الولايات المتحدة والغرب مع المعارضة السورية ضد نظام بشار الأسد… وفي العام 2014، شكلت واشنطن التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي الذي سيطر على أجزاء من سورية، وهي المنطقة الشرقية الخارجة عن سيطرة الدولة السورية. واستغلت واشنطن الحرب وبدأت خطوات عملية لفصل منطقة نفوذها عن الدولة السورية بالتعاون مع قوات سورية الديمقراطية التي كانت تحارب داعش. حيث كانت الحكومة السورية السابقة تتهم واشنطن برعاية الإرهاب وتعتبر الوجود الأمريكي في سورية غير شرعي، فيما كانت تعتبر الوجود الروسي في قاعدتي حميميم وطرطوس وجوداً شرعياً….
سقوط نظام بشار الأسد تعتبره إدارة ترامب فرصة لها لإعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يضمن الأمن القومي الإسرائيلي ويحقق الأهداف والمصالح الأمريكية في المنطقة، وتحقيق حلم إقامة شرق أوسط جديد على حساب الدول الأخرى كروسيا والصين وإيران…
ومع الحماسة الأمريكية الجامحة لإعادة العلاقات مع واشنطن ورفع العقوبات، والاندفاعة الترامبية المدهشة لإعادة العلاقات والتطبيع مع دمشق، كانت تتكشف يوماً بعد يوم الحقائق، حيث كانت واشنطن تدعم منذ سنوات طويلة الشرع وتعمل على تمكينه وتقوية هيئة تكرير الشام حتى وصل إلى سدة الحكم في سورية.
وما بين تحقيق الأمن القومي لإسرائيل والجموح الإسرائيلي لاحتلال المزيد من الأراضي العربية والهيمنة على المنطقة، وما بين الاندفاعة الأمريكية التي يقودها ترامب بنفسه باتجاه دمشق، لدرجة جعلت المراقبين يشعرون بالدهشة من تسارع الخطوات الأمريكية اتجاه دمشق، وجعل السوريين أنفسهم يستغربون هذا الاستعجال الأمريكي المتعدد الجوانب وعلى مختلف النواحي والأصعدة… فمن الناحية السياسية، استغلت واشنطن بنشاط لافت خلال الأشهر الماضية لتهيئة المناخات داخل مجلس الأمن، لتأمين إصدار قرار عبر المجلس لرفع اسم الشرع ووزير الداخلية السوري أنس خطاب عن لوائح الإرهاب الدولية، وذلك قبل التوقيع على أي وثائق رسمية بين الحكومتين الأمريكية والسورية.
بالإضافة إلى رعاية واشنطن للمفاوضات السورية الإسرائيلية وإعادة ترتيب العلاقات السياسية والدبلوماسية بين دمشق وواشنطن.
أما من الناحية الاقتصادية، فقد شهدت العلاقات بين البلدين تطورات هامة، حيث أعلن الرئيس ترامب من الرياض بعد لقائه في آذار الماضي مع الشرع، برعاية السعودية والأمير محمد بن سلمان، رفع العقوبات بشكل كامل، حيث تضغط إدارته منذ ذلك الوقت على الكونغرس من أجل إلغاء قانون قيصر.
وفيما يتعلق بالجوانب الأمنية، فإن هذا الجانب يتعلق ليس بمواصلة الحرب على داعش والقاعدة والتنظيمات الإرهابية الأخرى فحسب، وإنما يتعلق الأمر بإعادة ترتيب البيت السوري الداخلي وفق الرؤية الأمريكية، من منظور الشرق الأوسط الجديد الذي لا وجود لأي قوات مسلحة غير شرعية في دوله، وبما يحقق الأمن القومي الدائم لإسرائيل بالدرجة الأولى، ويؤمّن وجوداً أمريكياً عسكرياً شرعياً دائماً في سورية، خاصة في ضوء التوضيحات الأمريكية حول هذا الوجود ونفي أمريكا أنها ستسحب قواتها من شرق وشمال سورية، وسط التسريبات عن إقامة قاعدة أمريكية في دمشق في المنطقة الجنوبية، وذلك لمنع تركيا من مجرد التفكير بالاقتراب من دمشق. مع العلم أن ترامب أعلن أن تركيا وإسرائيل طلبتا منه رفع العقوبات عن سورية… بالتالي رفع الحرج عن الحكومة السورية التي تسعى لتوقيع اتفاقيات مع واشنطن لشرعنة الوجود الأمريكي والعمل على منع التصادم بين تركيا وإسرائيل على الأراضي السورية، حيث إن إسرائيل تنظر إلى الوجود التركي بكونه يشكل خطراً على أمنها في الجنوب، كما كان الوجود الإيراني يشكل خطراً على الأمن الإسرائيلي قبل انسحاب إيران من سورية إثر سقوط النظام في الثامن من كانون الأول الماضي…
اليوم، بعد أحد عشر شهراً من السقوط المبهر، تتأرجح سورية تحت وطأة موقعها الجغرافي والجيوسياسي الهام في قلب العالم ومنطقة الشرق الأوسط بين إسرائيل وتركيا والعراق، مع انتشار قوات وقواعد لروسيا والولايات المتحدة على أجزاء واسعة من أراضيها، ما يشير إلى أن الصراع على سورية سيأخذ أبعاداً مختلفة، وربما يتم تقسيم الكعكة السورية ومراكز النفوذ بين القوى الأربع: الروسية والأمريكية والإسرائيلية والتركية، مع أن الحرب على الإرهاب التي تطلقها إدارة ترامب من جديد ربما تؤجج الصراع الداخلي في سورية من جديد…
ويعزو محللون الاندفاعة الأمريكية باتجاه سورية واستعجال ترامب لإقامة علاقات متينة مع إدارة الشرع لشرعنة الوجود الأمريكي على الأراضي السورية، وذلك لأن هذا الوجود يحقق على المدى البعيد الأمن لإسرائيل التي تشعر اليوم بنشوة الانتصار بعد حرب غزة ولبنان وسقوط النظام في سورية، ولكن هذا الانتصار تدرك إسرائيل أنه لا يستمر طويلاً، وأن موازين القوى في المنطقة تتبدل باستمرار، وربما هذا ما دفع إسرائيل إلى الرد على محاولات التمدد التركية إلى الجنوب السوري بهذه العنف والقوة، حين قصفت إسرائيل قوات تركيا كانت تتمركز في مطار حماة العسكري ودمرته بشكل كامل قبل أشهر، وأعلنت الجنوب وساحل سورية مناطق محرمة على تركيا…
أما التفسير الثاني للاستعجال واللهفة الأمريكية لتعزيز العلاقات مع حكومة الشرع، فهو يتعلق بالرئيس ترامب شخصياً، فهو يريد استغلال الانتخابات النصفية للكونغرس العام القادم لتحقيق اختراق في السياسة الخارجية، ومن أجل كسب أصوات اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية، وتقديم إنجاز سياسي، وربما بات ترامب يرى بأن توقيع اتفاق أمني أو سياسي بين سورية وإسرائيل، وتوسيع الاتفاقيات الإبراهيمية بين إسرائيل وخصومها في المنطقة والعالم، يعتبر حلماً من أحلامه وهدفاً، ويعده بمثابة انتصار لإدارته الجمهورية، وهي تمر اليوم بعد عام من استلام الحكم بأسوأ مرحلة بسبب الإغلاق الحكومي وما يسببه من خسائر، وبسبب الانتكاسة التي تعرض لها ترامب شخصياً بعد أن فاز زهران ممداني في الانتخابات كحاكم لمدينة نيويورك على حساب مرشح ترامب الجمهوري….
ومن هنا تبرز أهمية وتاريخية زيارة الشرع إلى واشنطن، وأهمية التوقيع على اتفاقية انضمام سورية إلى التحالف الدولي لمحاربة داعش. وأكثر من ذلك، فإن الحرب على الإرهاب في سورية وفق الرؤية الأمريكية تتضمن هذه المرة شروطاً لا بد من التزام الحكومة السورية فيها، بالإضافة إلى مشاركة الجيش العربي السوري جنباً إلى جنب مع قوات التحالف الدولي فيها، وهذا ما حصل خلال الأشهر الماضية، حيث كانت القوات الأمريكية تعتمد على وحدات من الجيش السوري بدلاً من قوات “قسد” التي يتراجع دورها بعد أن قررت إدارة ترامب دعم حكومة دمشق وحصر السلاح بالدولة، ودعت إلى دمج “قسد” بالجيش، إلا أن “قسد” لا تزال ترفض العمل مع الجيش قبل تصفية الفصائل المتطرفة. وأكدت القوات الأمريكية أنها قامت حتى الآن بخمس عمليات مشتركة مع الجيش السوري ضد تنظيم داعش منذ انتصار الثورة السورية…
ورغم الاستعجال الأمريكي، إلا أن ترامب يحتفظ في جيبه بجملة مطالب وشروط أمريكية على حكومة الشرع العمل على تنفيذها، تتعلق بالدرجة الأولى بتصفية المجموعات المسلحة المنفلتة داخل الجيش السوري والتي تمتلك عقيدة قتالية عابرة للحدود، وسط محاولات الحكومة السورية لتغيير العقيدة القتالية للجيش السوري وتحويله إلى جيش وطني عبر مسارين: الأول من خلال إعادة مئات الضباط الوطنيين المتقاعدين إلى صفوف الجيش وتدريب العناصر، وهذه مسألة تستغرق وقتاً وجهداً….. أما المسار الثاني، فهو عبر الضرب بيد من حديد على الفصائل المسلحة التي تحتوي على عناصر مسلحة أجنبية وترفض الانخراط بالجيش، حيث يتم غربلة هذه الفصائل المسلحة التي ربما تضم في صفوفها عناصر من داعش.
ومن المتوقع أن تبدأ الحرب ضد هذه الفصائل والعناصر والمقاتلين الأجانب فور عودة الرئيس الشرع من واشنطن، مع الإشارة إلى أن قوى الأمن الداخلي أعلنت عن عمليات واسعة في حمص وحلب ودمشق في مناطق الحولة والسفيرة وريف دمشق للقضاء على تنظيم داعش واستعادة الأمن والاستقرار في تلك المناطق.. وجاء الإعلان عن العمليات العسكرية قبل يومين من القمة السورية الأمريكية، وتم الإعلان رسمياً عن إطلاق عمليات أمنية وعسكرية واسعة تمتد على مساحة الجغرافيا السورية وتشمل جميع المحافظات، وذلك لمحاربة تنظيم داعش والعناصر الأجنبية المنفلتة والقاعدة.. وغيرها من التنظيمات التي ترفض إلقاء السلاح والالتزام بالقانون. مع العلم أن تقارير إعلامية ذكرت أن داعش بات ينتشر على 70% من الجغرافيا السورية، ويضم في صفوفه عناصر من المقاتلين الأجانب الذين يخشون من تصفيتهم، ولهذا ينضمون إلى التنظيم الإرهابي، خاصة بعد الانفتاح الأمريكي الكامل على سورية، وبعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي بشطب الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير الداخلية أنس حسن خطاب عن لائحة العقوبات، الأمر الذي أرسل للعالم وللمقاتلين على الأرض من كل الأطراف والجماعات والانتماءات رسالة سياسية قوية بانتقال سوريا إلى فصل جديد وإلى مرحلة جديدة، وأنه لا مكان للإرهاب على الأراضي السورية.
ومن المؤكد أن الاتفاقيات الجديدة والنشاط الدولي الواسع والأمريكي بشكل خاص، سوف يؤدي إلى قيام واقع جديد في سورية، وربما سيؤدي ذلك إلى تجدد الحرب على الأراضي السورية، مع وجود مناطق واسعة خارج سيطرة الدولة، كمناطق شرق الفرات والسويداء ومناطق جبل الشيخ ومحيطها، وسط محاولات جميع الأطراف للخروج من دائرة التصنيف الإرهابي، حيث يسعى كل طرف لتبرئة نفسه من تهمة الإرهاب، خاصة وأن قرار مجلس الأمن وضع في أولى أولوياته واشترط على الحكومة السورية العمل على معالجة ملفات المقاتلين الأجانب والعمل على التفاوض مع إسرائيل ومواجهة النفوذ الروسي في سورية، مع العلم أن التعاون بين روسيا وإسرائيل في سورية في الساحل والشرق والجنوب لا يخفى على أحد، والاجتماعات علنية بين الجانبين من أجل التنسيق والتعاون على الساحة السورية لمواجهة النفوذ التركي المتعاظم. كما تتضمن الشروط الأمريكية تهيئة المناخات والأجواء المناسبة للاستثمارات، حيث إن إدارة ترامب تعمل على إيجاد مناخ استقرار يسمح بالاستثمار، وذلك لأنه لا استثمارات وسط الفوضى.
ومع أن العالم بأسره يتابع الخطوات والتطورات على الساحة السورية، وبخاصة العلاقات بين دمشق وواشنطن، ليتم العمل على الشيء بمقتضاه، فإن الاتحاد الأوروبي يتجه إلى رفع العقوبات عن الرئيس الشرع كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية، مع استمرار الضغط على الكونغرس لرفع قانون قيصر، ما يشير إلى أن سورية بهذه الزيارة للشرع لواشنطن ستكون أمام تحديات وسبل سياسي مختلف، وستدخل مرحلة جديدة مع اقتراب الذكرى الأولى لسقوط نظام بشار الأسد وانتصار الثورة السورية.

