عندما احتل الإسكندر المقدوني السواحل الفينيقية، أجرى مباراة بسباق الخيل بين أبناء المنطقة. ثم جاء وخاطب الفائز الثاني في السباق وقال له: “أنت الفائز الثاني، اطلب ما تشاء على أن نعطي ضعف ما تطلب للفائز الأول”. وهنا كان الجواب صاعقًا، إذ أجاب: “أطلب أن تُفقأ عيني يا سيدي”. فقام الإسكندر وفقأ عين الفائز الثاني وأمر بأن تُفقأ عيني الفائز الأول الاثنتين، لأن له ضعف منافسه. يمكن أن نتصور إلى أي درجة تصل المنافسة والمقارعة والتحدي، وإلى أي مكان يمكن أن يصل المتنافسون الأبطال.
ذكرت هذه الحادثة التاريخية لما تحمله من المعاني والدلالات حول المنافسة وتوق الجميع ليكونوا في المقدمة. وسوريا تتحضر لانتخابات مجلس الشعب في خضم تحولات وتطورات محلية وإقليمية ودولية متسارعة ووسط حالة اقتصادية صعبة تمر بها البلاد بعد ثلاثة عشر عامًا من الحرب على الإرهاب.
مررت في ساحة الأمويين وسط دمشق، وكانت تشغلها الصور اللامعة الكبيرة والصغيرة المعلقة على جنباتها واللافتات والكلمات والشعارات المفعمة بالود والحيوية والنشاط والوعود. فهذا يرفع يده وذاك يبتسم لك، وقائمة اختارت لحملتها الانتخابية من بابها إلى محرابها كلمتين: “الهمة قوية”. وقفت أتابع صور المرشحين لانتخابات مجلس الشعب وقد انتابني ذلك الشعور الخاص والفضول لمعرفة هؤلاء المرشحين والتعرف عليهم وعلى كل صاحب صورة معلقة في الأفق. لأن كل واحد من هؤلاء مدعو اليوم ليكون نائبًا ليس عن منطقته أو مدينته فحسب، وإنما نائبًا عن كل أبناء سوريا التي لا تزال تعاني من أزمة كبرى وتحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى لمجلس تشريعي يتابع عمل الحكومة أولًا ويقرر التشريعات التي تتلاءم مع المرحلة وتواكبها وتساعد على تسريع الخطط والبرامج لزيادة الإنتاج وطلب الاستثمارات وإعادة الإعمار. وتحتاج أيضًا إلى أبنائها المخلصين الذين صمدوا وقاوموا وتصدوا للإرهاب وقدموا التضحيات.
أذكر أنني لدورات انتخابية عدة كنت أنتخب النائب المرحوم إبراهيم الخليل أبو مصطفى من طيبة الإمام وكنت أفضلّه على الكثير من المرشحين الأقربين لأنه كان نائبًا سوريًا مفعمًا بالنشاط وحب الناس البسطاء.
واليوم يتطلع السوريون لانتخاب مجلسهم الرابع بعد تعديلات الدستور في العام 2012، ومع كل مواطن قائمة مطالب لا تعد ولا تحصى. فتاريخ البرجوازية الوطنية في سوريا حافل بالصور والمواقف التاريخية عندما كان مجلس الشعب أو البرلمان يسقط الحكومات ويحدد مسار السياسة السورية. ولا ينسى السوريون المعارك الانتخابية التي كانت تدور بين أولئك الرجالات الوطنية وبين أصحاب المصالح الضيقة الذين تستهويهم الحضارة الغربية المادية، فكان النصر والفوز دائمًا للوطنيين. وكان الشعب السوري يعرف من يخدم الوطن ومن يخدم مصالحه.
القوائم التي تملأ شوارع دمشق وشوارع المدن السورية وتصل إلى الأرياف يمكن تقسيمها إلى ثلاث فئات: قائمة التجار ورجال الأعمال وهؤلاء يمكن أن نعتبرهم قوائم البرجوازية الوطنية، وتضم أسماء لامعة ومعروفة لدى الشارع السوري. وقائمة الأحزاب التي يتصدرها المرشحون عن الحزب الحاكم، وضمت عددًا من الأسماء الجديدة ونشير هنا إلى أن الإعلام السوري كان له حصة كبيرة في الترشيح. إلا أن هذه القوائم الانتخابية الوطنية أخذت على عاتقها اسمين فقط: الإعلامية رائدة وقاف عن دائرة دمشق والإعلامي نزار الفرا عن دائرة مدينة حمص. أما القائمة الثالثة فهي للمستقلين من مختلف الشرائح، وهي تضم آلاف الأسماء وبعضهم ينتمون إلى الأحزاب ويراهنون على الفوز من خارج أحزابهم.
انتخابات مجلس الشعب هذا العام تجري وسط حالة من اليأس والتململ وعدم اليقين بعد تجربة الدورات الثلاثة الماضية. ولكن رغم هذا الوضع فإن السوريين يعتبرون الانتخابات تحديًا للإرهاب ولداعميه، وهم يعلمون أن الخامس عشر من تموز هو يوم وطني، والجميع يعلم علم اليقين أن مشاركته أو عدم مشاركته تساهم في صنع مجلس الشعب الجديد. في حال انتخب وفي حال امتناعه عن الانتخاب، فإذا انتخب أصحاب الكفاءة والعلم والاختصاص يكون بذلك قد اختار من يعتقد أنه يمثله تحت القبة البرلمانية. وإذا لم ينتخب، فعليه أن لا يلوم الآخرين لأنهم لم ينتخبوا من يمثله وأن اختيارهم لم يكن صحيحًا أو كاملًا.
إن انتخاب القامات الوطنية ليكونوا ممثلين حقيقيين عن الشعب هو واجب وطني، وأن عدم الاكتراث بالانتخابات سيؤدي في النهاية إلى خدمة أعداء سوريا وداعمي الإرهاب. إن سوريا تنظر إلى أعضاء مجلس الشعب كأشخاص وطنيين وأبطال في الخدمة العامة للوطن وللشعب، وأن تفوز بثقة الشعب.
يحيى كوسا
المقالة تعبر عن وجهة نظر كاتبها فقط