العقوبات الغربية ساهمت بالحد من عائدات التصدير بالنسبة لروسيا، لكنها قلّصت كذلك من الواردات، ففي الفترة الممتدة بين عامي 2022 و2023 حقّقت البلاد فائضاً قياسياً في التجارة الخارجية بلغ نحو 315 مليار دولار أميركي.
كشف تقرير اقتصاديّ صادر عن البنك الدولي عام 2023 عن قائمة الدول العشر الأولى من حيث الفائض التجاري، حيث تربّعت الصين على عرش التجارة الدولية محقّقة أرباحاً ضخمة، لكن ما كان لافتاً للخبراء الاقتصاديين هو وجود روسيا ضمن قائمة الدول العشر الأولى على الرغم من العقوبات الاقتصادية القياسية التي فرضتها الدول الغربية عليها.
وأشار التقرير الاقتصادي الصادر عن البنك الدولي عام 2023 إلى أنّ دول العالم أجمع صدّرت في العام الماضي بضائع ومنتجات بقيمة 23.3 مليار دولار أميركي، واستوردت في المقابل بنحو 22.9 تريليون دولار أميركي، لافتة إلى أن الفائض التجاري الدولي الإجمالي بلغ نحو 356 مليار دولار أميركي.
وبحسب التقرير الصادر، تصدّرت الصين قائمة الدول العشر الأولى من حيث الفائض التجاري الدولي، حيث بلغ الفائض التجاري لديها نحو 594 مليار دولار، وتلتها ألمانيا بفائض قدره 245.3 مليار دولار، وفي المركز الثالث جاءت إيرلندا بدخل تجاري صافٍ قدره 178 مليار دولار، وتلتها كلّ من سنغافورة (155 مليار دولار)، وسويسرا (131 مليار دولار)، وجاءت السعودية في المركز السادس بفائض تجاري بلغ نحو 127 مليار دولار أميركي.
واحتلت روسيا المركز السابع بفائض تجاري بلغ نحو 121 مليار دولار، وتلتها هولندا في المركز الثامن (97 ملياراً)، وأستراليا (83 ملياراً)، والبرازيل (81 ملياراً). وخلص التقرير الاقتصادي الدولي إلى وجود 43 دولة في العالم لديها فائض تجاري بمبلغ إجمالي قدره 2.5 تريليون دولار أميركي.
وفي المقابل، بلغ عدد الدول التي تعاني من عجز تجاري نحو 72 دولة بعجز إجمالي بلغ نحو 2.3 تريليون دولار أميركي، حيث تربّعت الولايات المتحدة الأميركية على قائمة هذه الدول بعجز بلغ نحو 1.1 تريليون دولار، تلتها الهند بعجز تجاري أقلّ بنحو أربع مرات من الولايات المتحدة (245 مليار دولار)، والمركز الثالث كان من نصيب بريطانيا بعجز يبلغ نحو 232 مليار دولار، واحتلّت فرنسا المركز الرابع بعجز يبلغ نحو 88 مليار دولار، وجاءت تركيا في المركز الخامس بعجز بلغ نحو 87 مليار دولار.
سرّ نجاح روسيا في الاحتفاظ بفائض تجاري إيجابي
شهدت روسيا كغيرها من الدول عدة تقلّبات وأزمات اقتصادية، أبرزها خلال تسعينيات القرن الماضي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، حيث دخلت البلاد في مرحلة ضياع وتفتيت ممنهج قاده وزراء ومسؤولون في مجملهم كانوا أدوات تستخدمهم الولايات المتحدة والدول الغربية لتنفيذ مصالحها وتقسيم وهدم روسيا وجعلها أكثر ضعفاً وخضوعاً، لكن رغم كلّ ما واجهته روسيا في تلك المرحلة الصعبة استطاعت موسكو إبقاء ميزانها التجاري إيجابياً، ففي أزمة عام 1998 عانت روسيا عجزاً تجارياً في أشهر معيّنة، لكن بحلول نهاية العام تمكّنت من التعويض وقلب المؤشرات السلبية في ميزانها التجاري إلى مؤشرات إيجابية.
ومنذ انطلاق العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، في شباط/فبراير 2022، فرضت الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، ودول غربية أخرى بينها أستراليا وكندا واليابان، عقوبات اقتصادية بلغ عددها الإجمالي أكثر من 16,500 عقوبة، كان الهدف الرئيسي منها هو محاولة لتقويض روسيا سياسياً واقتصادياً وخلق نقمة شعبية داخلية على القيادة الروسية. بالإضافة إلى تجميد احتياطات روسيا من العملات الأجنبية التي تقدّر قيمتها بنحو 350 مليار دولار أميركي.
ومع ذلك، ليس من قبيل الصدفة أن تبقى روسيا في قائمة الدول العشر الأولى من حيث الفائض التجاري، ويعود السبب الرئيسي لهذا الإنجاز بحسب الخبراء الاقتصاديين إلى سعر النفط باعتباره المنتج الرئيسي للتصدير إلى الخارج، حيث ارتفعت أسعار النفط في عام 2023 وبلغت بين 75-80 دولاراً للبرميل. وفي الوقت نفسه، أدى فرض القيود الغربية وتفعيل سياسات استبدال الواردات من قبل الحكومة الروسية إلى تقليص الاستيراد من الخارج، الذي بات أقلّ مما كان عليه في السنوات السابقة.
لا شكّ أنّ العقوبات الغربية ساهمت بالحد من عائدات التصدير بالنسبة لروسيا، لكنها قلّصت كذلك من الواردات، ففي الفترة الممتدة بين عامي 2022 و2023 حقّقت البلاد فائضاً قياسياً في التجارة الخارجية بلغ نحو 315 مليار دولار أميركي، وذلك نتيجة ارتفاع أسعار المواد الخام وانخفاض الواردات بحسب بيانات وزارة التجارة الروسية، وفي عام 2023 انخفض الفائض التجاري إلى 121 مليار دولار أميركي.
ويتبين أن الأوروبيين بدأوا في استيعاب فكرة استحالة ضرب روسيا بالعقوبات، حيث نشرت صحيفة هاندلسبلات الألمانية مقالا، قالت فيه أن العقوبات الأوروبية تضر بأوروبا نفسها أكثر من روسيا:
– العقوبات فشلت في تقويض قدرة روسيا على شن الحرب؛
– يتطور الاقتصاد الروسي بسبب نمو الإنتاج العسكري.
– عاجلاً أم آجلاً، ستعود روسيا إلى السوق العالمية كشريك على قدم المساواة؛
– تواصل ألمانيا شراء النفط الروسي المكرر في الهند؛
– فارضوا العقوبات لا يفهمون كيف تسير العلاقات الاقتصادية في العالم.
مستقبل روسيا بعد انهيار النموذج الاقتصادي في إثر فرض العقوبات الغربية
شكّل النموذج الاقتصادي الروسي السابق، القائم على تصدير المواد النفطية الخام إلى أوروبا مقابل الحصول على التقنيات والمعدات التكنولوجية والسلع الاستهلاكية، مصدراً مهماً لروسيا على مرّ العقود السابقة، حيث استطاعت من خلال فائض الواردات تغطية نفقات الميزانية الفيدرالية والقيام بمشاريع تنموية في مختلف المجالات في معظم أنحاء البلاد. بالإضافة إلى تحويل جزء من الواردات المتاحة إلى صندوق الثروة القومي الروسي، وفي ظلّ العلاقات الروسية الغربية الممتازة أغفل النموذج الاقتصادي الروسي السابق مجال تطوير الصناعات التحويلية الذي يعدّ من أهمّ المجالات التي تعمل روسيا في الوقت الراهن على تطويره رغم كل الصعوبات الموجودة.
سقط النموذج الاقتصادي الروسي السابق بسقوط العلاقات التجارية الروسية الأوروبية المتمثّلة بتوريد الغاز عبر خطي “نورد ستريم 1 و 2″، كما أقدم الاتحاد الأوروبي على وضع “سقف سعري” للنفط الروسي، ما دفع بموسكو إلى إعادة توجيه تدفّقات صادرات النفط والغاز إلى شرق وجنوب العالم، فضلاً عن قيامها بتطوير طرق بحرية بديلة لتعويض الخسائر، لكن المشكلة الأساس بالنسبة للاقتصاد الروسي تكمن بالفائض التجاري الخارجي الذي يشهد انخفاضاً تدريجياً حاداً في حصة العملات الاحتياطية الأجنبية، حيث قرّرت موسكو التخلّص تدريجياً من الدولار واليورو والاعتماد أكثر على التجارة بالعملات الوطنية مع الدول، وأبرزها الصين والهند وتركيا من خلال استخدام اليوان والروبية والليرة التركية، ما قد يؤدي إلى أزمة مستقبلية في حال لم تعمل الحكومة الروسية على إيجاد حلول مناسبة أخرى بالنسبة لها.
وبناء على ما سبق، يمكن القول إن زيادة التصدير الخارجي وانخفاض التوريد أدخل روسيا إلى قائمة الدول العشر الأولى التي تتمتّع بأكبر فائض تجاري، كما ساهم انخفاض عملة الروبل في زيادة القدرة التنافسية للمواد الخام والسلع المصدّرة من روسيا إلى الدول الأخرى، وتعمل موسكو اليوم على استثمار الأموال من الفائض التجاري في المجال الصناعي لتطوير الصناعات التحويلية، والصناعات ذات التقنيات العالية، وكذلك تطوير المجال الصحي والتعليمي، حيث ستساعد الاستثمارات مع الوقت البلاد على تقليل الاعتماد على الواردات الأجنبية وبناء بنية صناعية محلية لتلبية الحاجات المحلية الداخلية من دون أيّ ارتباط مع الخارج، ما سيؤدي إلى تعزيز الصناعة والاقتصاد خلال السنوات المقبلة.