اتفاق روسي أمريكي على عقد قمة جديدة بين بوتين وترامب حول أوكرانيا في بودابست.. والرئيس بوتين يحدد شروط روسيا لوقف القتال.. وترامب يوبخ زيلينسكي ويؤيد تجميد القتال بضمانات أمريكية واستعادة السيادة الروسية على الدونباس.
لم تعد الاتصالات بين موسكو وواشنطن في ظل ولاية ترامب الثانية محدودة ونادرة كما كان الوضع خلال الإدارة السابقة، حين انخرطت إدارة جو بايدن الديمقراطية حتى العظم في دعم نظام كييف لتكفل استمرار الحرب في أوكرانيا إلى ما شاء الله… كما أن الاتصالات بين واشنطن وكييف غير ودية تتسم بالتوتر، ويخيم على لقاءات ترامب وزيلينسكي حالة من عدم الاحترام والفوضى في الحوار، فلا يكاد زيلينسكي يطرح وجهة نظره حتى يصدى له ترامب، حتى أن الصحافة الغربية وصفت مواقف ترامب اتجاه زيلينسكي بأنها تشبه مواقف الرئيس بوتين، وعكست بعض وسائل الإعلام حالة التطابق بين مواقف ترامب وبوتين لناحية دعوة ترامب زيلينسكي للاعتراف بسيادة روسيا على إقليم الدونباس كاملاً، وهذا ما يرفضه زيلينسكي الذي عاد من واشنطن كما في المرات السابقة بعد أن تلقى توبيخاً قاسياً من ترامب بسبب إصراره على مواصلة الحرب، رغم أن ترامب قدم لأوكرانيا ضمانات أمنية كافية لأن روسيا لن تعاود مهاجمتها، كما رفض ترامب تزويد كييف بصواريخ توماهوك… وفي المحصلة فإن زيلينسكي كان يفقد جميع أوراقه في البيت الأبيض، فيما كانت موسكو تعزز موقفها، واستبق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين زيارة زيلينسكي إلى واشنطن وبادر بالاتصال مع نظيره الأمريكي دونالد ترامب، وكانت مكالمة ناجحة وإيجابية قدم خلالها الرئيس بوتين على مدار ساعتين ونصف موقفاً روسياً منسجماً وحاسماً مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية الجهود التي يبذلها ترامب وما تفرضه الصداقة والثقة المتبادلة مع ترامب الذي أعلن أن بلاده مستعدة لتقديم ضمانات أمنية إلى أوكرانيا، ونقل ترامب المواقف الروسية إلى زيلينسكي الذي كان مثل المرات السابقة أسد عناد عندما رفض القبول بالشروط الروسية رغم الضمانات الأمريكية وتوبيخ ترامب له بكونه يسعى لدمار بلاده.
ولا شك أن الاتصالات والحوار المستمر بين الكرملين والبيت الأبيض خلق حالة سياسية مريحة حول العالم، وشكلت قمة ألاسكا لحظة فارقة بعد أن بلغت العلاقات الأمريكية الروسية الحضيض خلال فترة رئاسة إدارة جو بايدن الديمقراطية..
اليوم جاءت مبادرة الرئيس بوتين بالاتصال مع ترامب والاتفاق على عقد قمة جديدة في بودابست كخطوة متقدمة باتجاه السلام، ليس في أوكرانيا فحسب، وإنما في العالم أجمع بعد أن وصلت التحذيرات من خطر اندلاع حرب عالمية ثالثة أوجها……
فالقمة الروسية الأمريكية المرتقبة في العاصمة المجرية بودابست ليست قمة عادية ولا اجتماعاً عادياً، بل هي في كل المقاييس وفي زمانها ومكانها، حدث سياسي عالمي كبير بعد قمة شرم الشيخ الدولية واتفاق غزة الذي أنهى الحرب، كما أن المكان الذي اتفق الجانبان على عقد القمة فيه يحمل دلالات ورسائل تشير إلى أهمية صنع السلام في أوروبا التي تشعر أكثر فأكثر بالخذلان الأمريكي لها منذ الحرب العالمية الثانية، وقد أصر الرئيس ترامب على استبعاد وتجاهل أوروبا ودورها خلال المفاوضات مع روسيا بشأن أوكرانيا، حتى أصبح هذا التجاهل الأمريكي لأوروبا كابوساً حقيقياً يضغط على القارة العجوز ويكبلها ويكشف ضعفها في مقابل القوة الروسية وتعاظم الدور الروسي على الساحة الدولية، وذلك كنتيجة للسياسات التي يتبعها الرئيس بوتين التي تعتمد على مسارات واضحة وأهداف لا مجال للتخلي عنها، مع الإشارة إلى أن مواقف ترامب أدت إلى ابتعاد أوروبا واقتراب روسيا، خاصة أن ترامب يريد ليس الحصول على المعادن الثمينة داخل الأراضي الأوكرانية وإنما أنظاره تتجه إلى الاستثمار في إقليم الدونباس الذي أعلنت روسيا إصرارها على استعادته كاملاً، وأيده الرئيس ترامب الذي دعا زيلينسكي للقبول بعودة الدونباس إلى روسيا والاعتراف بانتصار الرئيس بوتين.
فقد اعتبرت الصحافة الغربية أن انعقاد القمة الروسية الأمريكية في عاصمة المجر بودابست انتصاراً للرئيس بوتين، مع الإشارة في هذا المجال إلى أن أوروبا ذهبت بعيداً في معاداة روسيا ودعم نظام كييف، فيما أعلن الرئيس ترامب وقف تزويد أوكرانيا بالسلاح منذ استلامه مقاليد السلطة في البيت الأبيض قبل قرابة العام، وعزمه إنهاء الحرب في أوكرانيا، وكانت زيارة زيلينسكي لواشنطن والاتصال الذي أجراه بوتين فرصة لترامب لتجديد رغبته بالعمل على تجميد القتال في أوكرانيا ورفضه تزويد كييف بصواريخ توماهوك.
ومع تواصل الاتصالات المكثفة بين الرئيسين بوتين وترامب والتي بلغت ثمانية اتصالات هاتفية تخللتها قمة ألاسكا، وكان أطولها الاتصال الهاتفي الذي بادر إليه الرئيس بوتين، تم خلاله تقديم تنازلات محسوبة ومطلوبة لإنجاح الجهود الأمريكية التي يقوم بها الرئيس ترامب وإدارته، ولمجرد إعلان الاتفاق عن عقد القمة في بودابست فهذه إشارة إيجابية ودليل على رغبة الدولتين العظميين في العالم على وضع حد لهذه الحرب، حيث تم على الفور إعطاء الأوامر لوزيري الخارجية في البلدين سيرغي لافروف وماركو روبيو لإعداد التحضيرات وبرنامج المحادثات وزيارة الوثائق وأوراق العمل، وفي أسرع وقت ممكن، وذلك في محاولة من إدارة ترامب على وجه الخصوص لاستغلال الزخم السياسي والمعنوي الذي حققه ترامب خلال زيارته للقدس وشرم الشيخ وإبرام اتفاق غزة الذي يهدف إلى إنهاء الحرب وإيقاف القتال بين حماس وإسرائيل، وهو الاتفاق الذي رحبت به موسكو باعتباره إنجازاً شخصياً للرئيس ترامب الذي كان يريد أن يكون هذا الاتفاق سبيله للحصول على جائزة نوبل للسلام، ولا يزال هذا الموضوع هاجسه، حيث أنه يسعى إلى وقف الحرب في أوكرانيا بدون مشاركة أوروبا التي يرفض ترامب حتى الآن حضور ممثلين لها في أي اجتماعات بينه وبين الرئيس بوتين.
وبعيداً عن المناكفات الأوروبية مع إدارة ترامب حول أوكرانيا، فإن مجرد موافقة ترامب على عقد قمة مع بوتين في المجر، فإن ذلك يعتبر في مثل هذه الظروف الدولية المعقدة انتصاراً سياسياً ومعنوياً للرئيس بوتين يضاف إلى ما تنجزه القوات الروسية على جبهات القتال من انتصارات، مع الإشارة طبعاً إلى مخرجات قمة ألاسكا بين الرئيسين والتي أعطت زخماً قوياً للجانبين الروسي والأمريكي في مقاربة الأزمة، غير أن الموقف الأوروبي الداعم لزيلينسكي ربما عطل مفاعيل تلك القمة التي عقدها ترامب وبوتين في منتصف آب الماضي، ومن المحتمل أن التنازلات -إن صح التعبير- التي قدمها زيلينسكي خلال اجتماعه في البيت الأبيض في الثامن عشر من تشرين الأول الجاري مع الرئيس ترامب، وفشل القوات الأوكرانية في صد الهجمات الروسية القوية، ورفض الرئيس ترامب الموافقة على تزويد أوكرانيا بصواريخ توماهوك، بالإضافة إلى رغبة الرئيس بوتين إنهاء الصراع ووقف القتال وتقديم التزامات وضمانات أمنية إلى أوكرانيا بعدم مهاجمتها طالماً أنها تخلت عن رغبتها في الانضمام إلى الناتو.. كل هذه العوامل كانت مشجعة لتسريع عقد قمة جديدة بين بوتين وترامب في بودابست، عدا عن العامل الاقتصادي الذي يستخدمه الروس ببراعة، حيث إن حزم العقوبات الغربية ضد روسيا تنعكس سلباً على أوروبا وتبقى حبراً على ورق، فروسيا نجحت في إيجاد بديل عن أوروبا، ذلك لأن الجغرافيا كما ساعدتها في تحقيق النصر على نابليون وهتلر في الماضي، فإن ذات الجغرافيا تساعدها اليوم على تحقيق نصر كبير في أوكرانيا على الناتو وليس على زيلينسكي فقط، حيث أن المجال الذي تستند روسيا عليه واسع وكبير، وهي تعتمد على الصين والهند وإيران وتصدر لهم النفط والغاز والأسلحة المتطورة وتفتح أبواب التعاون العسكري والتكنولوجي معهم ما يشكل تحدياً جديداً للغرب، عدا عن اعتماد روسيا على منظمتي البريكس وشنغهاي اللتين تضمان عدداً كبيراً من الدول الفاعلة سياسياً واقتصادياً في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، حيث تقف روسيا على أرض صلبة في هذه المواجهة وتحتفظ لنفسها عبر هاتين المنظمتين بعلاقات دبلوماسية واقتصادية واسعة وأدوار سياسية ومكانة مرموقة على الساحة العالمية.
ولا شك أن قمة بودابست تعد نجاحاً للدبلوماسية الروسية ستكرس دور روسيا في العالم كله وفي المنطقة الأوروبية ومنطقة الشرق الأوسط أيضاً، ذلك أن ما يجري من ترتيبات في أوكرانيا لا ينفصل عن الأحداث التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط بما فيها القضية الفلسطينية والملف النووي الإيراني ومحاربة الإرهاب والأزمة السورية، فلروسيا دور هام في كل هذه الملفات وهي تقوم بلعب دورها بالتوافق والتنسيق مع إدارة ترامب، في وقت يراقب العالم الآثار الإيجابية لعلاقات الصداقة التي تجمع الرئيسين ترامب وبوتين على مستقبل العلاقات الدولية برمتها..
ولا شك أن ما يساعد أيضاً في دفع الأمور قدماً إلى الأمام وجود إدارتين أمريكية وروسية ناجحتين، حيث يلعب وزيرا الخارجية الروسي سيرغي لافروف والأمريكي ماركو روبيو دوراً رئيسياً في دفع الاتصالات الروسية الأمريكية، وهما يقومان بعمل كبير لتهيئة المناخ الإيجابي والتحضير الجيد لعقد المزيد من الاجتماعات والاتصالات بين الجانبين، ومن المنتظر أن يقدم الوزيران اقتراحات إلى قمة بودابست بين بوتين وترامب لتجميد القتال وإنهاء الحرب التي طال أمدها ولم يعد لاستمرارها جدوى وأصبح إيقافها ضرورة أمريكية بعد التوقيع على اتفاقية المعادن الثمينة التي وقعها الرئيس ترامب مع نظيره الأوكراني زيلينسكي.
وبعد فشل أوروبا ونظام كييف في تحقيق أي إنجاز عسكري على جبهات القتال، عدا عن إصرار الرئيس ترامب على وقف الحرب الروسية الأوكرانية وهو يكرر ذلك مرات عديدة في كل يوم ويريد أن يستغل الزخم السياسي الدولي الذي نتج عن اتفاق غزة ليحقق لنفسه إنجازاً تاريخياً وغير مسبوق بوقف الحروب في أوروبا والشرق الأوسط والعمل على إحلال السلام من خلال القوة كما يقول ويصرح دائماً وعلى الملأ…
الإعلان عن قمة جديدة بين ترامب وبوتين لوقف الحرب في أوكرانيا هو انتصار لروسيا وإنجاز كبير وشخصي للرئيس ترامب الذي يريد بأي ثمن الحصول على جائزة نوبل، فإذا فشل هذا العام فربما ينجح في العام القادم ويحصل على جائزة نوبل، وعندها يكون جديراً خاصة أنه بالتوازي يسعى أيضاً لإيجاد حل للملف النووي الإيراني…
كل المؤشرات والتصريحات تؤكد أنه لم يعد من طائل من استمرار القتال في أوكرانيا، وزاد في هذا الشعور تطورات الموقف الأمريكي الإيجابية في مقابل التشتت الأوكراني والأوروبي، ورفض ترامب تزويد أوكرانيا بصواريخ توماهوك، وإعلانه عن رغبته في تجميد القتال، وهذا يعني الاعتراف بانتصار الرئيس بوتين والدفع باتجاه تأمين كل متطلبات نجاح القمة الروسية الأمريكية في بودابست…