·
مع أن إلغاء العقوبات المفروضة على سورية، وفي مقدمتها قانون قيصر، يعد إنجازاً حقيقياً للثورة السورية ويكمل فرحة السوريين بمرور عام على الانتصار والتحرير، غير أن إسرائيل تنغص على السوريين فرحتهم وتواصل إضافة المزيد من القرى والبلدات في الجنوب السوري إلى قائمة أهدافها، بعد أن احتلت مناطق حاكمة ونقاطاً استراتيجية داخل الأراضي السورية كجبل حرمون والتلول الحمر التي تشرف على كامل المنطقة الجنوبية…
ومع أن إسرائيل تمارس البلطجة والعدوان وتستغل الأوضاع التي تعيشها سورية، وتُمعن في تشجيع التقسيم من خلال دعم انفصال السويداء بزعامة الشيخ حكمت الهجري، وتقديم المساعدات والخدمات والوعود لإقامة مشاريع في القرى والبلدات في الجنوب في محاولة لإقامة منطقة عازلة ممتدة تغطي كامل الجنوب وتصل إلى منطقتي قطنا والكسوة في ريف دمشق، ومنع قوات الجيش والأمن من الانتشار فيها، وإخلائها من الأسلحة، واعتقال الأشخاص والشبان الذين لا يمتثلون للأوامر الإسرائيلية، وتشجيع الخطوات الانفصالية لأبناء السويداء، وإغلاق المجال الجوي السوري على كامل مناطق الجنوب ومحافظاته الثلاثة (القنيطرة والسويداء ودرعا)، ومنع الطيران السوري من التحليق في أجواء الجنوب.
وخلق بيئة مسمومة ومعادية للحكومة السورية التي لا حول لها ولا قوة، وحتى أنها لم تقدم شكوى إلى مجلس الأمن الدولي ولم تدعُ إلى اجتماع الجامعة العربية من أجل إدانة إسرائيل وتصرفاتها العدوانية، والتي تظهر الثورة السورية وكأنها بمثابة فرصة لإسرائيل لاستكمال مشروعها العدواني وحلمها التوراتي بإقامة دولة إسرائيل تمتد من الفرات إلى النيل….
وفيما كان اهتمام الحكومة السورية ونشاطها المكثف باتجاه واشنطن من أجل إلغاء العقوبات ورفع قانون قيصر نهائياً، وقد نجحت في ذلك، وصادق مجلس النواب على إلغاء قانون قيصر، ومن المنتظر أن يوافق مجلس الشيوخ والرئيس ترامب بعد ذلك، ثم يتولى إصدار الأمر التنفيذي لينهي بذلك فصل مؤلم ومرحلة صعبة عانى خلالها السوريون من نقص في المواد الغذائية والطبية وعاشوا معاناة حقيقية بعد أن منعت أمريكا الدول الأخرى من تقديم المساعدة. ولكن كل ذلك انتهى، ودخلت سورية مرحلة جديدة، وقد عادت إلى المجتمع الدولي ومنظماته ومؤسساته الاقتصادية والمالية، وأصبح بإمكان الدولة السورية الاستفادة من نظام سويفت، كما أصبح المستثمرون الذين كانوا طوال السنوات السابقة لا يجرؤون على الاستثمار في سورية، أصبحوا اليوم في حل من أي عقوبات تفرضها عليهم أمريكا – التي شجع رئيسها ترامب الدول الأخرى على أن تقدم المساعدة والعون إلى سورية.
واليوم، بعد أن يوقع ترامب على إلغاء قانون قيصر قبل أعياد الميلاد ورأس السنة، فإن الكرة ستصبح في الملعب السوري، وفي ملعب الحكومة السورية التي وإن استطاعت أن تحل عقدة كأداء تعترض طريقها، وإن نجحت على المستوى الخارجي في تهيئة الظروف والمناخات لتشجيع الاستثمار، فإن المشكلة في الداخل السوري لا تزال تتفاعل على المستوى الأمني، مع بقاء الخلافات تعصف بوحدة البلاد، ومع تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية التي باتت تهدد بأن تأخذ شكل ما حدث في غزة تقوم به إسرائيل على الأراضي السورية خلال الأسابيع القادمة، بالنظر إلى المأزق الداخلي الذي يعيشه بنيامين نتنياهو رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، والذي يحاول الهروب إلى الأمام وإشعال الجبهات مع لبنان وسورية من أجل الفوز في الانتخابات القادمة.
وفيما تظهر الحكومة السورية مخاوفها من النوايا الإسرائيلية العدوانية وتطالب بالعودة إلى اتفاق فض الاشتباك عام ١٩٧٤، مع إعطاء إشارات إيجابية بشأن استعدادها لتعديله مع الالتزام بإقامة السلام في المنطقة.. مع الإشارة إلى أن حكومة دمشق تعتمد على الدول الحليفة لها من أجل تسوية خلافاتها مع إسرائيل، وتعول على الرئيس ترامب أن يمارس الضغط على نتنياهو ليوقف الاعتداءات الإسرائيلية خلال لقائه به قبل أعياد الميلاد، وبخاصة أن الولايات المتحدة والسعودية كانتا أظهرتا حرصهما الشديد على دعم حكومة الشرع ومساعدة سورية ودعم انضمامها إلى الأسرة الدولية ومنحها الثقة والمصداقية، غير أن العدوانية الإسرائيلية تهدد بنسف وتدمير كل شيء وقلب الطاولة على حكومة دمشق، ذلك لأن الشروط والمطالب الإسرائيلية لا يستطيع أي سوري القبول بها، لأنها تقوض أسس الدولة وتنتهك سيادتها وتشجع الأقليات على الانفصال عنها…
ومع أن رفع قيصر يعد بكل المقاييس إنجازاً بالنظر إلى تداعياته وتأثيراته على الحالة السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية في سورية، غير أن مفاعيله الإيجابية لا يمكن مقارنتها بالأخطار التي تشكلها التصرفات والممارسات العدوانية الإسرائيلية على الدولة السورية، لأن هذه الممارسات تهدد سورية وتقوض كل مقومات وجودها كدولة لعبت دوراً هاماً في المنطقة ليس خلال المراحل والعقود الماضية فحسب، وإنما عبر التاريخ والعهود.
ويبدو أن إسرائيل تتمدد وتتوسع وتسيطر على المزيد من الأراضي على حساب سورية الطبيعية التي كانت دولة تضم سورية ولبنان وفلسطين والأردن قبل وجود دولة إسرائيل، ولكنها اليوم تواجه مرة أخرى التقسيم وموجات الاستيطان الصهيونية، خاصة مع الوضع الخطير في شرق الفرات، وعدم إحراز أي تقدم على صعيد توحيد الجيش السوري ودمج قوات سورية الديمقراطية مع الجيش وفق اتفاق العاشر من آذار بين الرئيس الشرع ومظلوم عبدي…
ويبدو أن محاولات إسرائيل دعم انفصال الكرد والدروز لم يعد أمنيات، وإنما يأخذ شكل خطوات عملية على الأرض، حيث باتت إسرائيل تملك أوراق سيطرة على الأرض بعد أن باتت طائراتها الحربية تنتهك الأجواء السورية بحرية، وأصبحت على اتصال على الأرض مع الأكراد في شرق الفرات عبر قاعدة التنف الأمريكية والبادية السورية، ومع الدروز في السويداء…
وما يزيد الوضع الأمني غموضاً وصعوبة في سورية حالة الفوضى الأمنية والتوترات المستمرة في الساحل السوري، والدعوة إلى الإضراب العام لمدة خمسة أيام من الثامن من كانون الأول وحتى الثاني عشر منه، وذلك في محاولة للعب في النار وإظهار القدرة على خلط الأوراق واستخدام ورقة الساحل من جديد لزيادة التوتر والخوف والقلق، في وقت يعيش أبناء الساحل مرحلة تاريخية لم يشهدها أي مجتمع أو مجموعة من حالة عدم اليقين والشكوك حول نوايا الحكومة، ذلك بسبب ملاحقة مئات الآلاف من الأشخاص المسرحين من الجيش بتهمة أنهم من الفلول المتورطين، والذين انقطعت لهم ولعائلاتهم كل أسباب الحياة وباتوا عاطلين عن العمل. فيما جاءت الدعوة التي أطلقها الشيخ غزال رئيس المجلس الإسلامي العلوي للإضراب احتجاجاً على الأوضاع المعيشية والأمنية، وهي محاولة جديدة ليس للضغط على الحكومة السورية لتحسين الأوضاع في الساحل السوري فحسب، وإنما لتثبيت المشروعية والتمثيل الذي بات يتمتع به الشيخ غزال في مناطق الساحل وغرب ووسط سورية، في ظل انعدام وجود أي هياكل سياسية أو أحزاب أو شخصيات يمكن أن يكون لها صفة تمثيلية لأبناء تلك المناطق…
ويبدو أن منطقة الساحل تتهيأ لمرحلة جديدة، وهي اليوم تمر بحالة من الفوضى مع استمرار أعمال القتل الطائفية، رغم أن هذه الحالة تراجعت مؤخراً، ولكن لا تزال منطقة الساحل السوري تعيش الخوف والقلق وسط هبوب رياح عاصفة عليها من جهات عدة، خاصة مع دخول الولايات المتحدة الأمريكية لأول مرة منذ عقود الساحة السورية بهذا الزخم، وخاصة إلى الساحل السوري عبر القيام باستكشاف الساحل السوري للإقامة استثمارات فيه. فقد كان لافتاً اللقاء بين الرئيس الشرع وبين ممثل عن شركة شيلرون الأمريكية المتخصصة في التنقيب عن النفط والغاز، واحتمال أن يكون لها السبق في استكشاف واستثمار النفط والغاز من السواحل السورية.
وتأتي هذه التطورات على وقع الخلافات الإسرائيلية التركية. فقد أكدت تركيا بلسان وزير خارجيتها إدانتها الشديدة للتوغلات الإسرائيلية في الجنوب. وكانت إسرائيل قد رفضت أي تواجد تركي في وسط وجنوب سورية، كما أنها تحاول منع الجيش السوري من التزود بالأسلحة التركية… في وقت تواصل حكومة أردوغان في تركيا التحذير من التعاون بين إسرائيل وقوات سورية الديمقراطية (قسد) في شرق الفرات من جهة، وبين إسرائيل والدروز في الجنوب السوري من جهة ثانية، وذلك بما يهدد وحدة سورية ويقوض عمل حكومة الشرع المدعومة من أنقرة..
وفي غياب أي معالجات داخلية لأوضاع الأقليات وإدخالهم من جديد في بوتقة واحدة مع الكوادر الثورية داخل الحكومة والمؤسسات، واقتصار عمل الحكومة على التعهد والالتزام أمام المجتمع الدولي بأنها لن تعاود ارتكاب الأخطاء التي وقعت في السويداء والساحل ضد المكونات السورية المختلفة، والتزامها بتحقيق العدالة الانتقالية، فإن ذلك لم يعد يكفي للحفاظ على أمن سوريا واستقرارها. حيث تستغل إسرائيل ضعف المقدرات لدى الحكومة السورية الوليدة من أجل الدفع لتقسيم سورية إلى دويلات طائفية وعرقية. وقد بات من شبه المؤكد أن إسرائيل لن تخفف اعتداءاتها، وإنما سوف تزيد من هذه الاعتداءات خلال الفترة القصيرة المتبقية على إجراء الانتخابات في إسرائيل، وربما تكون الأشهر القليلة القادمة حبلى بتطورات كبرى في المنطقة إذا ما نفذ نتنياهو تهديداته وهاجم جنوبي لبنان وسورية لإحداث تغييرات جديدة في خريطة المنطقة….

