إذا ما أردنا فهم التحولات الجيوسياسية الحديثة في الشرق الأوسط، لا بد من معرفة الاستراتيجيات الرامية إلى التأثير في المنطقة، وبالطبع استراتيجية روسيا تندرج ضمن هذه الاستراتيجيات كونها أحد الأطراف البارزة، تقوم بخطوات وتحركات تتناسب وسياق تطورات المنطقة وخاصة في هذه المرحلة من الفوضى والحروب العشوائية التي تحمل في ظاهرها تعزيز الأمن والاستقرار والديمقراطية، فيما تعتبرها روسيا أحداثاً مقلقة تهدد استقرار المنطقة عموماً وتؤثر على مصالحها ونفوذها خصوصاً.
سعت روسيا الاتحادية في هذه الحقبة ومازالت، إلى الدعم المتوازن للأنظمة في الشرق الأوسط، وتحفيزها على الاستجابة لمطالب الشعوب، والحفاظ على توازن القوى في المنطقة، ومنع تأثير التغييرات السياسية في مواقفها وعلاقاتها الاقتصادية، فباتت تشكل قطباً يفرض نفسه كقوة يحسب لها حساب في النظام العالمي ، قطباً طموحاً يرتكز على قوته العسكرية والاقتصادية وقدرته على تصدير الطاقة وعدد من الموارد في تعزيز نفوذه مرة من خلال التقارب مع بعض الدول التي ترى السياسات الغربية تشكل تهديداً لمصالحها، وإحياءها في مرة أخرى من خلال تواجد نسبي لروسيا على الأرض كما فعلت في سورية وليبيا..
الواقع الحالي يظهر أن الشرق الأوسط يظل مسرحاً للتحديات الأمنية والاقتصادية، ويبقى حيويًّا في حسابات السياسة الخارجية الروسية، هذا يعني أن روسيا من الممكن أن تتجه في المستقبل إلى تكثيف جهودها للحفاظ على ما حققته من تقدم وإنجازات إقليمية وتأثير سياسي، من خلال تعزيز التعاون الاقتصادي مع دول الشرق الأوسط، والاستثمار في مشروعات تنمية مشتركة من جهة، ومواصلة دعم الحلول السياسية للنزاعات في المنطقة كوسيطً دولي من جهة أخرى، أما على الصعيد الأمني ربما ستسعى إلى تعزيز التعاون الدفاعي والعسكري مع الدول الشريكة في المنطقة لتعزيز قدراتها وتأثيرها.
من باب رفض روسيا لأن تكون في ظلال القوى الغربية، فهي ترى أنه من خلال إعادة التفاعل القوي في الشرق الأوسط، يمكنها إعادة بناء تأثيرها ونفوذها الدولي، والتصدي للتحديات التي تواجهها من القوى الغربية، خاصةً الولايات المتحدة المنافس الأشرس لها، وهذا ما أظهرته في عمليتها العسكرية في أوكرانيا، فكان هدفها الرئيسي تحديد المشهد الدولي، وتغيير توازن القوى، باتخاذها موقفاً أعادت من خلاله تعريف النظام الدولي بمشاركة فعالة من جانبها.
الشراكات الاستراتيجية التي تحاول روسيا خلقها مع الدول العربية كانت وما زالت وسيلة لتحسين الأمن الإقليمي، خاصة في ظل التحديات الأمنية والاقتصادية التي تواجه المنطقة، فهي تتبنى استراتيجيات متعددة، بدءاً من تعزيز العلاقات الدبلوماسية، وصولاً إلى التدخل العسكري، مما يظهر مرونتها في تكييف استراتيجياتها وفقاً للظروف المتغيرة، واستعدادها لتبني الوسائل الملائمة لحماية مصالحها، وتحقيق أهدافها…ويمكن تلخيص الأهداف الروسية جميعها في بالشرق الأوسط باستنزاف قدرات الولايات المتحدة، وتحقيق الاستقلال الاقتصادي والعسكري عن التأثيرات الغربية، وخاصة الأمريكية.